جمال علي... موسيقى ضد الحكومة

جمال علي... موسيقى ضد الحكومة

15 أكتوبر 2017
اعتقل جمال في 17 مارس 2012 (فيسبوك)
+ الخط -
في إحدى ليالي برلين، تعرّفت صدفة إلى الموسيقيّ، الصحافيّ والناشط السياسيّ الأذربيجانيّ جمال علي (1987)، وذلك ضمن أمسية عزف موسيقيّ ارتجاليّ في "المساحة – برلين". في هذه الليلة تحديدًا، كان الحضور بغالبيته من أذربيجان، تركيا وجورجيا، ومع تقدّم الوقت، بدأت المجموعة تغنّي أغاني كلاسيكيّة تركيّة، حالة تشبه سهرات الليل العربيّة عندما تنتهي مع أغاني أم كلثوم.

في العام 2012، وصل جمال علي إلى برلين من مدينته، العاصمة الأذربيجانيّة، باكو، بعد ما نُفيَّ منها في مايو/ أيار من العام نفسه. كانت تلك السنة التي أقيمت فيها مسابقة يوروفيجن، حيث شهدت باكو مظاهرات واحتجاجات ضد ممارسات الحكومة الأذربيجانيّة التي هدمت بيوتًا وهجّرت سكانها من أجل تحويلها إلى أماكن سياحيّة لاستقبال زائري يوروفيجن. وفي 17 آذار/ مارس 2012، نظّمت مجموعة شبابيّة مظاهرة في الشوارع، ودُعيّ جمال علي وفرقته الموسيقيّة لتقديم أغاني راب، في الوقت الذي كان هو بدوره ناشطًا ضد ممارسات الحكومة. بعدما قدّم جمال أغنيته الأولى الناقدة، ومن ثم شتم رئيس حكومة أذربيجان، جاءت أياد وسحبته من المنصة إلى السّجن، حيث قضى هناك 10 أيام. "فعلت خطأ شنيعًا عندها، كنت أرتدي حزامًا جميلًا، فجاؤوا وسحبوني منه إلى المعتقل"، يقول جمال علي.

الاعتقال... باكو والنفي
كان العام 2012 أيضًا العام الذي عاد فيه جمال علي إلى باكو بعد قضاء 6 أعوام من الدراسة الأكاديميّة في تركيا. في تلك الفترة، كانت لديه فرقة راب موسيقيّة، تغنّي مضامين سياسيّة. كان جمال أكثر الأعضاء اهتمامًا بالسياسة، وبعدما اعتقل بعض أعضاء الفرقة، قرر أن لا تغني الفرقة أغاني سياسيّة بعد. "عندما عدت إلى باكو، لم تكن الأحوال السياسيّة على ما يرام؛ قُتل صحافيّون، خُطف بشر، إلخ.. كل أنواع الظلم كان بإمكانك رؤيتها هناك، وكتبت عن هذه الأوضاع وضد ممارسات الحكومة. الذروة كانت مع تحضيرات لمسابقة يوروفيجن، هُجر سٌكان وهُدمت بيوت، فعلت الحكومة كل شيء كي تبدو المدينة أفضل من حقيقتها. وشعر الكثير عندها بأن أموالنا تُصرف من أجل تنظيم حفلة كبيرة. بنت الحكومة مباني وفتحت شوارع، والناس تحتج في الشوارع لأنها خسرت بيوتها. بالنسبة لي، كان بإمكان الحكومة أن تفعل ما تشاء، لكن ألا تدمر حياة الناس بسبب شؤونها"، يقول جمال. علاقته بالسياسة بدأت منذ جيل صغير، كان ذلك عندما ترأس رئيس حكومة أذربيجان، إلهام علييف، مؤسسة الأولمبياد في أذربيجان، "تحدث الرئيس عبر التلفاز وأخبرنا بأنه سيقوم ببناء قاعة للتزلج.

كطفل، انفعلت كثيرًا! لكن مرت السنين، ولم يبنِ القاعة. كذب علينا، ودمّر طفولتنا آنذاك! لذا، لا أعتقد أنه كان يمكنني أن أكون شيئًا أخر عدا على أن أكون سياسيًا"، يقول جمال.
اعتقل جمال في 17 آذار/ مارس 2012، حيث كان من المفترض أن تكون جلسة محاكمته خلال تلك الفترة. أخبره المحامي بأن ما فعله يعتبر جريمة حسب القانون، وأن عقوبتها تبدأ من عامين إلى 5 أعوام بتهمة إهانة الرئيس. خلال تلك الفترة، أخبروه بأن لديه احتماليْن، الأوّل أن يبقى داخل السجن مدة 5 أعوام، أو أن يترك البلاد. "لو وافقت أن أبقى في البلاد، لكنت خرجت من المعتقل قبل أشهر قليلة"، يقول جمال. ويتابع: "قالوا لي إن أذربيجان ليست بلدي، وإني وُلدت في المكان الخطأ، وإن أصدقائي جميعهم في أوروبا وإني عميل، لأني كنت في إيران وروسيا وأتحدث 5 لغات. كان الموعد النهائيّ للسفر من أذربيجان هو 22 أيار/ مايو 2012، وهو موعد افتتاح مسابقة يوروفيجن. منذ لحظة خروجي من المعتقل حتى موعد سفري، كان من الممنوع أن يمسكوني، إلا في حال لم أسافر، عندها كان يمكنهم اعتقالي. لكني قررت السفر، لأني عرفت بأن اعتقالي لن يفيد بشيء، ولن يعرف أحد قصّة أذربيجان، وسيفعلون ما يشاؤون".

قبل الاعتقال، كان جمال ينظر لنفسه على أنه ذاك الشاب المحاط بموسيقيّين مشهورين من عالم الهيب هوب، وبشكل أو بآخر يحب الناس موسيقاه، لكن لم يشعر بقوة هذا الشيء. مشيرًا إلى أنه خلال المظاهرة، شعر أن أغنية واحدة تكفي كي يشعر بقوة ما يفعل. وتابع: "كان أخي يقف مع المتظاهرين، واستمع إلى رجال الشرطة يتحدثون فيما بينهم عن قرارهم باعتقالي فور انتهاء الأغنية. شعرت عندها بالقوة، هذه أغنية فقط! حتى إنّ الرئيس ورّط نفسه بهذه القضية".

بعدما خرج جمال من المعتقل، كانت عائلته وأصدقاءه قلقين بشأنه، وشجعه الجميع على الرحيل. على مدار أيام، كان يتحرك في المدينة داخل سيارة فقط، بلا مواصلات عامّة. في تلك الفترة، أراد أن يسجّل أغنية ويصوّر فيديو في أحد البيوت المهجورة. عندها تعرّف على عائلة رفضت الخروج من بيتها خلال عملية التهجير إبان التجهيزات لمسابقة يوروفيجين، فقرر جمال أن يعيش مع هذه العائلة، خاصّة لأنه كان يسكن في بيت أمّه التي أحاطته سيارات الشرطة طوال الوقت بعد خروجه من المعتقل. "بعد انتقالي للسكن مع العائلة في البيت المهجور، زارني صحافيّون لتغطيّة قصّتي، وبنفس الوقت كانوا يحكون عن قصّة العائلة. ومن ثم قمت بتصوير فيديو أغنية هناك، تحكي الأغنية عن حال البلاد، عن الصّورة التي تقدّمها الحكومة عنها مقابلة حقيقتها المختلفة تمامًا، خاصّة خلال الفترة التي عملت الحكومة على إنتاج فيديوهات سياحيّة متجاهلة مشاهد الجوع في الشّوارع. أردت أن أظهر الحياة الحقيقيّة للناس، فإن أردتم معرفة بلادي، زوروا حقيقتها"، يقول جمال.



الموسيقى والنشاط السياسيّ
لم يكن من السهل على جمال علي تسجيل الأغنية في ستوديو محترف، لم يرغب أحد بأن يستضيفه مع الفرقة، من دوافع الخوف. عندها قام بتسجيل كل آلة على حدة في مكان مختلف، وخلال تصوير الفيديو، قرر أن يغطي الموسيقيّين وجوههم لحمايتهم. منذ بدأت مسيرته الموسيقيّة، كانت موسيقى الراب هي الحاضرة بقوة في حياته، حيث تشكّل موسيقى الراب بالنسبة له مساحة للكتابة والتعبير عن الذات في ظل الواقع السياسيّ الذي تعيشه أذربيجان، مع حضور لموسيقى الروك في حياته أيضًا.

أحبّ جمال دومًا الموسيقى، وتابع أسلوب الموسيقيّين تجاه الحياة، ووجده مثيرًا دائمًا، خاصّة جيمي هندركس وجيم موريسون. بعدها تعرّف على موسيقى الراب، واشترى كاسيتات ورقص "بريك دانس" على أغاني الراب مع زملائه، ومن ثم أسس فرقة هيب هوب تحمل الاسم "هوست". "كانت الهيب هوب بمثابة ثقافة ترعرعت فيها، رسم أصدقائي الغرافيتي على الحيطان، رقصنا بريك دانس، وغنينا راب، ومن ثم تطوّر مشهد موسيقى الراب كثيرًا في أذربيجان. أنا فتى شوارع، ليس بمعنى أني أنام بالشوارع، إنّما أعيشها وأحكي مع ناسها، لذلك يجب أن أقول حقيقتها، والراب هو فنّ كلام"، يقول جمال.

في علاقة الفنّ بالسياسة، وتأثير الفنّ على الناس مقارنة بالفعل السياسيّ المباشر وصنّاع القرارات، يرى جمال أن كل الفكرة تكمن بأن يكون الإنسان، فيما يقدّمه، صادقًا ومبدعًا، "كل ما نقوله أو نكتبه، بإمكانه أن يكون سياسيًا"، يقول جمال. ويضيف: "المتلقي هو الذي يقرر إن كان المنتج سياسيًا أو لا. وفي واقع فيه قمع سلطويّ، الشرطة هي التي تقرر ما هو سياسيّ أم لا، للأسف. على الإنسان أن يكون صادقًا. بإمكان الفنّ أن يغيّر كل شيء لحظة، ممارسة الفنّ بالحياة العاديّة تحضر لنا حياة لا نملكها. تتأملين لوحة وتشعرين بأنك في الجنة، أو أحيانًا في جهنم. لا أعرف إن كان هنالك جنة أم نار، لكن من خلال الفنّ بإمكانك أن تذهبين إلى هناك. الناس في بلادي يسألون أنفسهم دائمًا: هل نفعل هذا من أجل الفنّ أم من أجل سبب آخر؟ ببساطة، افعل. إن قرر أحد بأن الفعل سياسيّ، أنت غير مسؤول. هناك من يرسم منفضة سجائر كل الوقت، هل هذا الفعل سياسيّ؟ لا أعلم. لكن، بإمكان أحد أن يقول بأن هذا الفنان يرسم منفضة السجائر فارغة لأنه لا يملك نقودا لشراء السجائر، عندها، تحوّلت الرسمة إلى فعل سياسيّ، حسب المتلقي".

برلين والبيت
عندما كان عليه الرحيل من باكو، اختار جمال أن تكون وجهته نحو برلين، مع العلم بأن احتمالات كثيرة لمدن توفّرت له حينها. "عليّ أن أحجز بطاقة طائرة وأذهب لمكان ما"، يقول. كانت امستردام بمثابة احتمال إضافيّ بالنسبة له، لكن عندما زار برلين مرة منذ سنوات، قال لنفسه: "هذه المدينة التي أريد أن أعيش فيها". ويضيف: "امستردام هي قاعدة سياحيّة، برلين هي الحياة الحقيقيّة".

بالإضافة إلى الموسيقى، يعمل جمال علي الآن في برلين صحافيًا في وسيلة إعلام ألمانيّة كما في وسيلة إعلام تغطي أخبار أذربيجان، من خلالها، يتواصل دائمًا مع بلاده وناسه وأخبارها. يرى جمال بأنه لو توفّر له احتمال البقاء في باكو لكان في السجن. ويضيف: "فكرت بالأمر كثيرًا؛ أن أبقى بالسجن لسنوات ما من ثم أخرج وأقول: فعلتها! أو أن أذهب نحو القرار الأكثر ذكاءً والسفر إلى العالم، من أجل الاندماج به وتطوير ذاتيّ. شعرت بأني ما زلت صغيرًا، وأردت أن أتعلّم الكثير، وعلمت أنني لن أتمكن من التقدّم في أذربيجان. بإمكاني أن أقرأ 3000 كتاب في المعتقل، لكن هذا لا يناسبني، أريد تجربة حياة. ماذا كان يمكنني أن أفعل لو بقيت في باكو؟ سأكون وحيدًا. في برلين، لدي شبكة علاقات وأصدقاء كبيرة ومتنوعة، استمتع بحياتي وألتقي بالناس وأتحدث عن بلدي وأبني مشاريع مشتركة. كما وأني تحوّلت إلى حكواتي عن قضيتي وناسي وبلدي. لكن بنفس الوقت، هنالك ناس في أذربيجان، يعملون مراسلين وصحافيين كجنود مجهولين، لولاهم، لما يمكن أن نصل إلى أي مكان. هناك من عليه أن يبقى، ومن يريد أن يبقى، لو بقيت هناك لاعتقلت ومُنعت من السفر فيما بعد. أحيانًا، وبلحظات معينة، أريد أن أكون في شوارع باكو، لكن من ثم تعود الحياة الحقيقيّة إلى مجاريها، وأقول لنفسي بأنه من الأفضل أني هنا، أشعر بتأثير أكبر من مكاني الحالي".

في إجابة عن السؤال لو كان لديه الإمكانية لأن يعود إلى البيت الآن، ما هو أول ما يفعله، صمت جمال قليلًا، وأجاب: "هل تقصدين أن أحجز تذكرة طائرة وأذهب الآن إلى باكو بلا أن يعتقلوني؟ سأركب تاكسي. كلا، دعيني أفكر. لن أذهب إلى البيت بداية، سأمشي في شوارع المدينة القديمة وداخل القلعة، أستمتع برؤية الناس. ومن ثم سأجلس على أحد أرصفة الشوارع وأغنّي Summer times".


المساهمون