جين وايلدر: رحيل آخر الكوميديين القدامى

جين وايلدر: رحيل آخر الكوميديين القدامى

30 اغسطس 2016
رحل وايلدر عن 83 عاماً (John Springer Collection/CORBIS)
+ الخط -
غداة شيوع نبأ رحيل الممثل الأميركي جين وايلدر، مساء أمس الاثنين، استعاد كثيرون سيرته السينمائية الكوميدية، وحضوره الفاعل فيها، بتعامله مع المخرج مل برووكس الذي أصبح "ممثّله المفضّل"، أو بتمثيله إلى جانب ريتشارد برايور، الذي شكّل معه ثنائياً، لا تزال أعمالهما معاً تثير ضحك العديدين، في أنحاء مختلفة من العالم.

كما استعادوا تجاربه الإخراجية المتواضعة، واختياره، أحياناً عديدة، شخصيات أدبية معروفة سينمائياً، كي يُعيد تصويرها بأسلوبه الكوميدي الساخر، الذي يحتوي أيضاً على كمٍّ من الأسئلة الإنسانية، وإنْ بشكل مبطّن.

لكنّ قليلين هم الذين انتبهوا إلى أن وايلدر الذي توفي بعد ثلاثة أعوام من إصابته بمرض "ألزهايمر"، شارك في مطلع شبابه وبداياته الفنية في أحد أبرز وأهم أفلام العنف، "بوني وكلايد" (1967) لآرثر بن، الذي حطّم تابوهات سينمائية أميركية عديدة. وأسّس لنمط سينمائي جديد في التعاطي مع أحوال المجتمع الأميركي، عبر التوغّل في أعماق الشخصيات الشريرة، ومحاولة فهم بواطنها وأفكارها وأحاسيسها، من دون التغاضي عن كون الشخصيات هذه، والحالات الاجتماعية الأخرى، مرايا تعكس مراحل تاريخية في الولايات المتحدة الأميركية.

يروي الفيلم حكاية شابين يسرقان المصارف، في ثلاثينيات القرن العشرين، في أميركا الواقعة تحت وطأة الانهيار الاقتصادي ـ المالي الكبير، وهما شخصيتان حقيقيتان.

لن يكون الأمر مهمّاً، ربما لأن وايلدر لم يكن يؤدّي دوراً رئيسياً، بل دور حفّار قبور يخطفه بوني (فاي داناواي) وكلايد (وارن بيتي). أو ربما لأن جيروم سيلبرمان (مواليد "ويسكنسن"، 11 يونيو/حزيران 1933)، وهذا اسمه الحقيقي، فرض نفسه في المشهد السينمائي الدولي، كممثل كوميدي، يمتلك شكلاً بات جزءاً أساسياً من شخصياته السينمائية، وسلاسة قول ونبرة صوتية أضحت رديفاً جوهرياً لكيفية تقديمه هذه الشخصيات.



لكن جين وايلدر لم يكتفِ بتعاونه مع آرثر بن، في نتاجٍ سينمائي بعيد عن الضحك والخفّة الكوميدية الجميلة. ذلك أن اسمه موجودٌ في أفلام لمخرجين، بعضهم مزج الكوميديا بالمرارة السوداء، كي يروي فصولاً من اليوميات الحياتية للناس، أو جعل الدراما نواة أعماله. من بينهم يبقى وودي آلن الأشهر. ففي "كل شيء تريد دائماً معرفته عن الجنس، لكنك تخاف أن تسأل عنه" (1972)، يتناغم الضحك بأسئلة متعلّقة بأصل الحياة، وبالعلاقات القائمة بين الجسد والروح والانفعال، وبتفاصيل طبية وعلمية تتّخذ من البُعد الإنساني امتداداً لتعبيرٍ عن موقفٍ إزاء الحياة. وهذا كلّه بالأسلوب الكوميدي الساخر، الذي يُتقن آلن صناعته في أفلام عديدة له.

في حين أن روبرت ألدريخ يتعاون معه في فيلم موصوف بأنه "وسترن كوميدي". إذ يؤدي وايلدر دور حاخام بولوني يُدعى آفرام، يسافر إلى سان فرانسيسكو بنيّة تشييد كنيس يهودي. لكنه يتأخّر عن موعد انطلاق الباخرة من فيلادلفيا، فيضطر إلى السفر برّاً، من دون مال. أما لقاؤه أحد سارقي المصارف، فيحوّل الرحلة إلى مزيج فكاهي وإنساني من المغامرات المشوّقة.

مع سيدني بواتييه، يُقدم وايلدر أحد أدواره العديدة مع ريتشارد برايور، في "إثارة مجنونة" (1980): صديقان يغادران مدينتهما نيويورك، بحثاً عن مكان أفضل. يصلان إلى كاليفورنيا، ويبدآن حياة مختلفة وهادئة. يعملان في مصرف. لكن، فجأة، تلقي الشرطة القبض عليهما بتهمة سرقة المصرف، فإذا بحلمهما بالحصول على حياة هادئة يتبخّر، إذْ يُحكم عليهما بالسجن المؤبّد، لمدة 125 عاماً.

لم يكن غريباً أن يدخل جين وايلدر عالم الكوميديا عن طريق مل برووكس نفسه، في خطوة تُعتبر الثانية له في التمثيل السينمائي. فبعد عام واحد فقط على "بوني وكلايد"، ظهر في أول تعاونٍ له مع برووكس، في "المنتجون" (1968): محتالان لا يملكان قرشاً واحداً، يُقرّران تقديم عمل مسرحي كوميدي موسيقي بعنوان "ربيع هتلر"، وهو عنوان كفيلٌ بتحريض كثيرين على "حشرية" المشاهدة.

الفيلمان الآخران مع برووكس، تمّ تحقيقهما عام 1974: "سروج ملتهبة"، و"فرانكنشتاين الشاب"، الذي شارك وايلدر في كتابته. يعود الأول إلى عام 1874، مستنداً إلى نوع الـ "ويسترن" أيضاً في سرد حكاية الصراع بين المال والمصالح من جهة أولى، وحقوق الناس من جهة ثانية، لكن في قالب كوميدي، إذ يُفترض بخطوط سكة حديدية جديدة أن تمرّ في قلب مدينة، يقف ناسها في وجه المأمور الطامع بأرباح كثيرة يجنيها من تعاونه مع الشركة.

أما الثاني، فنسخة ضاحكة وساخرة عن حكاية فرانكنشتاين، التي كتبتها ماري شيلّي عام 1818، بعنوان "فرانكنشتاين، أو بروميثيوس الحديث": تصنيع مخلوق من أعضاء أناس ميتين، وانقلاب المخلوق على مبتكره، في مفارقات كوميدية.

وبالإضافة إلى التمثيل والكتابة، حقّق جين وايلدر أربعة أفلام كمخرج، مثّل فيها أيضاً أدواراً أساسية: "مغامرة الشقيق الأذكى لشارلوك هولمز" (1975)، و"أعظم العشاق في العالم" (1977)، و"امرأة بالأحمر" (1984)، و"شهر العسل المسكون" (1986).

غير أن معظم النقّاد يقولون إن ثمانينيات القرن العشرين لم تكن فترة ذهبية له، إذ بدأ يتراجع في المستوى الكوميدي والتمثيلي والفني، من دون أن يتوقف كلّياً عن العمل، وإنْ لم تكن أعماله كثيرة. إلى أن شارك في "آليس في بلاد العجائب" (1999) لنِكْ ويلينغ، وهو آخر فيلم له، قبل تواريه عن الأنظار بشكل تدريجي. وهو العام نفسه الذي اكتشف الأطباء خلاله إصابته بمرض سرطان الغدد اللمفاوية. علماً أن الخبر الرسميّ، الذي أعلن وفاته، أفاد أنه كان مُصاباً بـ"ألزهايمر"، وأنه طلب من المحيطين به إخفاء النبأ، كي تبقى صورته الكوميدية الجميلة محفورة في قلوب الناس وعقولهم وخيالهم.

المساهمون