"سيدي" لروهينا غيرا: تفكيك سينمائي للمجتمع

"سيدي" لروهينا غيرا: تفكيك سينمائي للمجتمع

06 فبراير 2019
من "سيدي" للهندية روهينا غيرا (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
حين يسود نظام طبقي صارم مجتمعًا ما، يتجذّر في مجالات الحياة كلّها، تصبح قصّة الحبّ بين رجل غني من طبقة عليا وامرأة فقيرة من طبقة دنيا من المحرّمات، التي لا يُمكن حتّى التفكير باحتمال حدوثها. وحين يتناول فيلمٌ هندي قصّةً كهذه لشجب الفوارق الاجتماعية والطبقية، فإنه يصعب تفادي إمكانية وقوعه في مبالغة عاطفية أو في سرد واعظ. المفاجأة أن "سيدي" للهندية روهينا غيرا بسيط وبعيد تمامًا عن المبالغات والنصح. كما أنه ليس نمطيًا تمامًا، لا في أسلوب إخراجه ولا في معالجته، رغم أنّ موضوعه متناولٌ كثيرًا في السينما. 

السيد هو آشوين (فيفيك غومبر)، أربعيني وسيم وغني، يعيش بين نيويورك ومومباي. فشل زواجه التقليدي، وألغي في اللحظة الأخيرة شهر العسل المقرر، فعاد إلى شقته المجهّزة للعروسين وحيدًا ومحبطًا وحزينًا. الخادمة الشابة والأرملة راتنا (تيلوتاما شوما)، القادمة من قرية قريبة من مومباي، كانت تنتظر شخصين، وعليها الآن التعامل مع الموقف الجديد: وجودها بمفردها مع "السيد". هذا السيد لبقٌ، لا ينظر إليها باستعلاء، فهو يعاملها باحترام كإنسانة يشكرها على جهدها، ويتبادل حوارًا بسيطًا معها بين وقت وآخر، ويمنحها وقت فراغٍ فتتدرّب على الخياطة. هي مُجدّة في عملها، وممتازة في إدارة شؤون البيت. تُضفي ابتسامتها وتفانيها وبراءتها أجواء هدوء وراحة نفسية على المكان وصاحبه. روهينا غيرا اعتمدت إضاءة مناسبة وديكورًا بسيطًا وأنيقًا للإيحاء بألفة المنزل وإعطاء احساس بالحميمية، مع ترك مساحات فارغة للتخفيف من الشعور بالانغلاق.



اهتم السرد بتفاصيل يوميات راتنا وآشوين بشيء من التكرار، يطلّبه تطوّر العلاقة بينهما، مع أقلّ قدر من الكلمات، إذْ تُرك للصمت والنظرات مهمّة الايحاء بما يدور في الشخصيتين. هذا أجدى في علاقة معقّدة تتجنب الاعتراف الصريح، أقلّه في مرحلة تشكّلها. الشقة مسرح لغالبية المَشَاهد، تبدو كمحيط ضيق يجمع كائنين يفرّقهما كلّ شيء. شخصان يتناقض أحدهما مع الآخر اجتماعيًا ونفسيًا وماليًا. المرأة عاقلة وقوية الشخصية، تُدرك تمامًا استحالة العلاقة بينها وبين سيدها، بل حتّى الاعتراف بها لنفسها، فتقرّر المغادرة حفاظًا عليه؛ بينما يبدو هو غير مهتمّ بالفوارق بينهما، أو بالأحرى غير واع لمخاطر أمر كهذا في بيئته. هو هشّ رغم مظهره القوي. عاطفي مأخوذ بالكائن الذي أمامه. يرى في راتنا امرأة شجاعة ومقدامة، خصوصًا عند مقارنتها بخطيبته السابقة، البورجوازية المدلّلة، وبصديقات له يحلمن بالاقتراب منه.

تيلوتاما شوما شديدة الإقناع بدورها، فشخصيتها (رتنا) ليست ضحية مسكينة، بل امرأة عركتها الحياة. رغم صغر سنها. كما أنها قادرة على اتخاذ المواقف وبذل جهود لايجاد الحلول لتحسين حياتها. إنها صورة واقعية تمامًا عن المرأة الهندية الفقيرة والمكافحة، التي "لا وقت لديها لتكون ضحية" كما تعلّق روهينا غيرا في حوار ترويجي للفيلم، المعروض للمرّة الاولى دوليًا في "أسبوع النقد الـ57"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي.

قصّة الحب حجّة استخدمتها المخرجة غيرا لإظهار التباين في المجتمع الهندي، ونظام التفرقة الطبقية، بأسلوب مرهف وسلس. نظام لا يزال يلعب دورًا رئيسيًا في الحياة المعاصرة، رغم إلغاء قانون التقسيم الطبقي في الهند عام 1950، وتطبيق نظام الحصص في التعليم والتوظيف على الفئات الأدنى اجتماعيًا (لا ماديًا بالضرورة). لهذا القانون جذور قديمة، كرّسها الاستعمار البريطاني أيضًا، ويقضي بتقسيم المجتمع الهندوسي إلى 4 طبقات: أعلاها رجال الدين الهندوس (البرَهما)، يليهم المحاربون (كْشاتريا)، ثم المزارعون والحرفيون (فايشيا)، وصولاً إلى الطبقة الدنيا المتشكّلة من صغار المزارعين والرعاة وأمثالهم (شودرا). استبعدت من هذه التقسيمات فئة "المنبوذين" (الداليت)، الأدنى من الآخرين، إذْ لا يستحقّون الدخول في أية فئة أخرى.

ركّزت روهينا غيرا أيضًا على تصميم المرأة الهندية وعدم استسلامها، وعلى التمايز مع الخدم. تقول: "هناك قبول عميق لمكانة وموقع كل فرد في المجتمع، وكل ما من شأنه أن يهدد الوضع القائم يموضع الناس من الجهتين في حالة غير مريحة. إذا بدأت القواعد بالتغيّر، سينشأ عدم توازن في المجتمع يؤثّر على الجميع. هذا القبول العميق للطبقية وللتسلسل الاجتماعي الهرمي وللتقاليد يسمح للهنود المحرومين بأن يكونوا، مقارنة بما يحصل في مجتمعات أخرى، أقل عنفًا تجاه المحظوظين".

روهينا غيرا مخرجة وثائقية وسيناريست. فيلمها الروائي الأول هذا (سيدي) يُعرض حاليًا في الصالات الفرنسية. عملتْ أعوامًا عديدة كسيناريست في السينما البوليوودية. في حوار معها منشور في جريدة "تايم أوف انديا" (17 مايو/ أيار 2018)، قالت غيرا إنها استغرقت وقتًا طويلاً لتجد صوتها الخاص: "ليس فيلمي فنيًا خالصًا ولا بوليووديًا تمامًا ولا تجاريًا. استمتعت بالعمل في بوليوود ككاتبة سيناريوهات، لكن هذا لم يكن يُعبّر عن حساسيتي الخاصة. "سيدي" هو بين الاثنين. ورغم أنه قصة حب، فهو يُبرز قضايا مهمّة. كما أنه مصنوع بطريقة تصل إلى الناس".

المساهمون