الحكومات وخداع الشعوب

الحكومات وخداع الشعوب

25 يوليو 2018
لم تعلن الحكومة عن مساعدات نقدية للفقراء(فرانس برس)
+ الخط -
ظهر مصطلح العقد الاجتماعي منذ قديم الأزل، وكانت إرهاصات ظهوره عند الرومان الذين لم يتوصلوا إلى تعريف أو نظرية محددة له، لكنهم توصلوا إلى مقوماته التي رأوا أنها تتمثل في القبول والرفض لما يملى عليهم من أفكار وما عرف بعد ذلك بالسياسات.
استمرت بعد ذلك فكرة العقد الاجتماعي في التبلور في فلسفات أفلاطون وسقراط، ودعا سقراط إلى تكوين مجتمع سياسي، هو ما يعرف في عالمنا الآن بالبرلمان.

ورأى أرسطو أن الطبيعة البشرية تدفع الناس إلى الاجتماع السياسي، حيث يكون لكل فرد حاجات ذاتية يهدف إلى إشباعها، وهذا الإشباع لا يمكن أن يتحقق بشكل فردي، الأمر الذي يدفع المواطنين للتعاون فيما بينهم.
بعدها توصل ابن خلدون إلى ضرورة وجود ما ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين، حيث أكد أن وجود السلطة يعتبر من الضرورات الاجتماعية، إلا أنه رأى أن شهوة السيطرة والطغيان غالباً ما تتملك من هم في الحكم، وبناءً عليه فإن أفراد المجتمع يرغبون دائماً في تنظيم السلطة السياسية، التي تتجمع في يد شخص واحد، يطلق عليه "الرئيس"، ومن ثم وُجدت الحاجة لإقرار الحقوق المدنية للمواطنين، فكانت فكرة العقد الاجتماعي، التي أخذت في التبلور والتطور على يد العديد من علماء الاجتماع، مثل توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم.

وتفرض كلمة "العقد" هنا أن يكون على كل طرف واجبات وله حقوق، كما تشمل الكلمة معنى ضمنياً آخر، وهو الثقة المتبادلة بين طرفي العقد طوال مدة سريانه، الأمر الذي يعني أن أياً من الطرفين لا يحق له خداع الطرف الآخر، أو تضليله، أو حتى إخفاء الحقائق عنه.
عندما وصل رئيس هايتي جوفينيل مويس إلى الحكم العام الماضي، قدم لشعبه وعوداً اعتُبِر أغلبها غير قابل للتحقيق.
وعد شعبه الفقير بحياة أكثر رخاءً، وتعهد بإنشاء شبكة طرق تخدم البلاد "بطولها وعرضها"، وخطط لحفر "قنوات جديدة" تساهم في تحسين اقتصاد الدولة المتهالك، وطلب منهم الانتظار ليروا النتائج في غضون "ستة أشهر فقط".

قبل وصول مويس للحكم، عانت هايتي خلال السنوات الأخيرة أيما معاناة. فلم تكد شبه الجزيرة المطلة على البحر الكاريبي تتعافى من زلزال 2010 الذي تسبب في مقتل ما يقرب من مائتي ألف مواطن، حتى ضربها إعصار ماتيو العام الماضي، وحيث إن المصائب لا تأتي فرادى، فقد تزامن ذلك مع حدوث أزمات اقتصادية لدى بعض الجيران ممن كانوا يغدقون على هايتي بالأموال، ومنهم فنزويلا والبرازيل، مما أدى إلى توقف تلك الإعانات تماماً خلال الفترة الأخيرة.
وفور توليه المنصب، توجه الرئيس المنتخب إلى صندوق النقد الدولي، حيث عقد معهم صفقة كانت تهدف لإخراج الدولة الصغيرة من كبوتها. لكن صندوق النقد، الذي لا يمنح القروض بالمجان، والذي لا يمد يد العون للدول إلا بعد التأكد من توفر مصادر لسداد قروضه، طلب من الحكومة في هايتي إلغاء دعم الوقود، متحججاً بأنه يستنزف أكثر من عشرة بالمائة من الإنفاق العام!

وكرر الصندوق أسطوانته المعروفة، والتي يقول فيها أن 85% من دعم الوقود يذهب للعشرة بالمائة الأكثر ثراءً من المواطنين الذين يمتلكون السيارات. وكانت هايتي قد تخلت منذ عام 2011 عن سياسة ربط سعر الوقود فيها بالسعر العالمي للنفط، وبناءً عليه لم تتغير أسعار الوقود في محطات هايتي خلال السنوات السبع الأخيرة، على الرغم من ارتفاع أسعار النفط عالمياً بأكثر من 50% خلال العام الماضي فقط.
وبعيداً عن السياسات القاسية التي يفرضها صندوق النقد على الدول التي يقرضها، فمن المؤكد أن الصندق يطلب، ولا يفرض كما يفعل في إجراءات الإصلاح الاقتصادي، من الدول مراعاة البعد الاجتماعي عند تطبيق إجراءات الإصلاح، لكن قليلاً من الدول من يلتزم بهذه النقطة.

لم تأخذ حكومة هايتي بتوصية الصندوق في هذا الخصوص، ولم تعلن عن أية إجراءات تنوي اتخاذها لحماية الفقراء، وتعويضهم عن ارتفاع أسعار المواصلات والغذاء والدواء عند رفع أسعار الوقود. لم تعلن الحكومة عن مساعدات نقدية للفقراء، ولم توفر أي نوع من الدعم للطبقة العاملة، وتركت المواطنين لمواجهة مصيرهم المحتوم وحل مشاكلهم بأنفسهم. 
حاول الرئيس خداع المواطنين، وراهن على انشغالهم بمباريات كأس العالم في الفترة السابقة وتعمد تمرير الزيادة في أسعار الوقود أثناء متابعة الشعب لمباراة بلجيكا مع البرازيل التي يصطف وراءها أغلب مواطني هايتي، حتى إذا جاء خبر رفع أسعار الوقود، انسحق أمام فرحة فوز منتخب البرازيل ووصوله إلى الدور قبل النهائي لكأس العالم.

وكادت الخطة تنجح، لولا براعة البلجيكيين الذين قلبوا الطاولة على الشعب البرازيلي وأبناء عمومتهم من الهايتيين.
رفعت الحكومة أسعار الوقود 40%، وفي نفس الوقت خرجت البرازيل من كأس العالم، فاختلط الحزن واليأس بالغضب والثورة، وخرج أفراد الشعب إلى الشارع يعبرون عن رفضهم للقرار، فأشعلوا الحرائق وحطموا السيارات ونهبوا المحلات وأغلقوا أغلب الشوارع الرئيسية في بلدهم!

انتفاضة الشعب أجبرت رئيس الحكومة على إلغاء القرار، إلا أنه لم يستطع الحفاظ على منصبه، واضطر لتقديم استقالته قبل التصويت في البرلمان على سحب الثقة من حكومته. وبالإضافة إلى الخسائر المعنوية الضخمة التي منيت بها القيادة السياسية في هايتي، تجاوزت التقديرات الأولية للخسائر 2% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة الفقيرة، بالإضافة إلى وفاة ثلاثة أشخاص.
الشعوب لا تنتخب الرؤساء والحكومات ليخدعوهم أو ليخفوا عنهم الحقائق، ولا يُسمح لحكومات الشعوب الحية بالمراوغة أو الكذب. فالحكومات وجدت لخدمة المواطنين وإسعادهم، ومن أجل ذلك فقط فوضت الشعوب حكوماتها في مهام محددة، ولفترات محسوبة، والويل كل الويل لمن يسيء استخدام ذلك التفويض.
توجد الحكومات بالأساس لخدمة المواطنين.


المساهمون