الاحتكارات والسلطة... علاقات متشابكة ونتائج كارثية

الاحتكارات والسلطة: علاقات متشابكة ونتائج كارثية.. مصر نموذجاً

23 أكتوبر 2017
الاحتكارات تسيطر على الأسواق المصرية (فرانس برس)
+ الخط -
تنطلق الحكومات في دعايتها وتبنيها لمنظومة السوق الحر بأن ذلك يوفر فرص التنافس مما يحسن نوعية المنتجات ويحد من ارتفاع الأسعار ويمنع الاحتكار، وإن كان هذا نظريا يبدو صحيحاً إلا إن الواقع يشير في مصر إلى نتائج عكسية.

وحتى على المستوى العالمي فإن مسألة الاعتماد على السوق الحر والإيمان بأن التنافس كفيل

بإدارة وتنظيم الاقتصاد لم يعد أمرا مسلماً به وتتدخل الحكومات بإجراءات عديدة لضبط السوق والحد من ارتفاع أسعار السلع، بينما يكشف الواقع أن شعارات دعم القطاع الخاص هي متكأ للهروب من أدوار الدولة الإنتاجية وتنظيم السوق، ليحل محلها القطاع الخاص، الذي لم نرَ من استثماراته عوائد تنموية حقيقية تنتشل الاقتصاد من أزمته.

تكذب الاحتكارات والممارسات الاحتكارية زيف شعارات دعاة السوق الحر وقدرته على التنافس، حيث تشهد العديد من القطاعات الإنتاجية المصرية ممارسات احتكارية، ولا يقتصر الاحتكار على تلك القطاعات فحسب بل يتضمن أيضا احتكارات في سوق السلع المستوردة عبر تكتلات المستوردين.

يستفيد المحتكرون من ضخ أموالهم في السوق المصري مرتين، الأولى حين تمنحهم الدولة تسهيلات وحوافز وضمانات للاستثمار من بينها عمليات تخصيص ومنح الإراضي والإعفاءات الضريبية، والمرة الثانية حين يحققون أكبر قدر ممكن من النهب عن طريق الممارسات الاحتكارية، وبهذه الطريقة يتحكمون في الأسعار لتحقيق أقصى قدر ممكن من الربح على حساب المستهلكين.

أشكال الاحتكار

تتنوع أشكال وممارسات الاحتكار في السوق المصري فبدلاً من وجود الشكل التقليدي " المحتكر الواحد" الذي يستحوذ على سلعة أو خدمة يقدمها دون غيره من منافسين، هناك احتكار القلة، والذي تسيطر فيه مجموعة من الشركات المحدودة على سوق سلعة أو خدمة ما، ويدخل في هذا الشكل الاحتكاري حالة قطاع الاتصالات الذي تستحوذ عليه ثلاث شركات تتفق فيما بينها على مستوى الأسعار وتوقيتات العروض، بل وتتفاوض مع الدولة بشكل جماعي لرفع الأسعار.

بالإضافة إلى ذلك هناك ممارسات احتكارية تكونت عبر دمج واستحواذ شركة (أو تحالف شركات) على السوق عبر شراء ودمج الشركات الأقل حجما في الإنتاج والرأسمال، ويهدف هذا الاستحواذ على السيطرة على السوق وتقديم السلعة أو الخدمة من مصدر واحد، وقد تكرر هذا النموذج في عدة قطاعات منها قطاع الزيوت على سبيل المثال، ويتضح ان خريطة الاحتكارات تتركز في القطاعات التي تضم السلع الضرورية والتي تشهد معدلات طلب واستهلاك مرتفع، كقطاع الأغذية والبناء والتشييد والاتصالات.

كيف تتكون الاحتكارات؟

هناك أسباب عديدة تقف وراء تكوّن الاحتكارات منها عمليات تفكيك الصناعات وخصخصة

المصانع كما حدث مع القطاع الهندسي (شركة تليمصر والنصر كنموذج) وتصفية الشركات، وهنا تتضح حقيقة أنه حين تغيب استثمارات الدولة يتعاظم حضور احتكارات القطاع الخاص، كما حدث في قطاع الألبان على سبيل المثال والذي تقوم فيه الشركات بالتعاون والاتفاق فيما بينها للتحكم في السوق، وهو الأمر الذي لم يكن يتم في ظل وجود شركات ألبان مصرية تابعة للدولة.

يساعد غياب تشريعات تجرم الاحتكار في انتشاره، وفى بعض الأحيان تقوم الدولة بإجراءات وتتخذ قرارات تساهم في عملية تكون الاحتكارات، ويمكن إن نأخذ في هذا الصدد قطاع البناء والتشييد، وبالأخص سلعتان هامتان كالحديد والإسمنت، وكلاهما نموذجان لدور الدولة في مساندة الاحتكار، فلم تكتفِ الدولة وأجهزتها بالصمت، لكنها بررت الاحتكارات وساعدتها على التمدد وتحقيق أرباح ضخمة، وفى هذا الشأن يمكن الحديث عن قرار فرض رسوم إغراق على الحديد المستورد من تركيا والصين وأوكرانيا بنسب متفاوتة تتراوح ما بين ( 17-27%)، ومثّل هذا القرار استجابة الحكومة لمطالبات منتجي الحديد..


آثار الاحتكارات

يخسر المواطنون والاقتصاد الوطني من آثار الاحتكار، فوجود احتكارات يعني ارتفاع الأسعار وعدم تطوير مستوى السلع التي تطرح للمستهلكين في الأسواق، ويحد الاحتكار بذلك من فرص زيادة الإنتاج وطرحه في السوق ويؤثر بالتالي في فرص العمل التي تتجه إلى الندرة مما يزيد معدلات البطالة، بوجود ممارسات احتكارية يصبح المستهلكون رهينة للمحتكرين وتتحكم الاحتكارات ليس في السوق وحسب لكن تؤثر وتتدخل في المشهد السياسي بما تمتلكه من أدوات ضغط مالية وإعلامية ونخب تابعين لها يبررون عمليات النهب بمقالات تحركها جلسات الأنس والدردشة التي لا تخلو من صفقات تبادل المصالح.

خلال أربعة شهور مضت على قرار فرض رسوم الإغراق ارتفعت أسعار الحديد ما يزيد عن ثلاثة ألاف جنيه، بينما وقفت الدولة تبرئ شركات الحديد من رفع الأسعار وردت الزيادات إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج المتمثلة في أسعار الطاقة والمواد الخام التي يتم استيرادها ومنها خام البليت، لكن المتتبع لأسعار الخام يجدها لا تتناسب مع مستوي أسعار المنتج النهائي، الأمر الذي يعني أن قرار الإغراق الذي اتخذ بمبرر حماية الصناعة المحلية ساهم في أرباح الشركات بعد احتساب فروق سعر تكلفة الإنتاج، وفي ظل غياب الحديد المستورد غاب منافس حقيقي كان يحد من استغلال الشركات للمستهلكين.

تؤثر الاحتكارات عموماً على أسعار السلع والخدمات وتقلل من جودتها بحكم عدم وجود منافسة أو ضوابط ومعايير للجودة، وإذا تناولنا أثار ارتفاع أسعار الحديد والأسمدة على قطاع البناء والتشييد فسنجد أنها سترفع أسعار المساكن مستقبلا، كما ستقلل من نمو القطاع وحجم فرص التشغيل، ومن خلال نموذج احتكار منتجات الحديد يمكن التأكيد على ميل الاستثمار الخاص إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح، ويتضح من هذا النموذج أيضا تؤاطؤ أجهزة الدولة مع المحتكرين.

نتائج كارثية

تسقط حالة احتكار الحديد في مصر شعارات تمجيد السوق وتشجيع المستثمرين من أجل

التنمية، وتتضح من خلال ذات النموذج أن دعم هؤلاء المحتكرين لا يرتبط بمصالح اقتصادية بحته وحسب لكن أيضا يتضمن ويكشف طبيعة العلاقات والتشابكات الاقتصادية والسياسية ما بين المحتكرين والنظام، فشركات الحديد التي يسيطر عليها رجل الأعمال أحمد عز وأحمد أبو هشيمة وغيرهم تقف بكل قوة لمساندة النظام وتأييده بشكل واضح، وإن كانت المواقع السياسية لهؤلاء تغيرت فإن الأدوار لم تتغير ولا بالتأكيد تغيرت طبيعة مواقفهم السياسية التي تناصر وتؤيد نظاما سياسيا يخدم ويراعي مصالحهم.

أدخلت الثورة أحمد عز السجن ثم أعادته الثورة المضادة ليقف يعظنا كيف نخرج الاقتصاد من أزمته، وجاء أحمد أبو هشيمة أحد محتكري الحديد ليلعب أدواراً سياسية ومهام منها السيطرة على الوسائل الإعلامية عبر شرائها ودمجها لتمارس دعاية مكثفة للنظام، وكما هو معروف فقد اشترى أبو هشيمة عدة مؤسسات إعلامية ضمت قنوات وصحفا ومواقع إلكترونية بهدف السيطرة على المشهد الإعلامي لخدمة مصالح النظام الذي يحفظ لكبار رجال الأعمال أرباحهم.

إذن، ليست شعارات تمجيد حرية السوق وتشجيع القطاع الخاص تتعلق بهدف إدارة السوق بشكل ناجح يحافظ على مستوى أسعار مناسب للمستهلكين أو يحسن جودة المنتجات، وإنما تلك الشعارات تستفيد منها المتكتلات الاقتصادية التي تمارس الاحتكار، وهي ذاتها التي تدخل في شراكة مع النظام وتقوم بحكم امتلاكها موارد مالية ضخمة بشراء وسائل الإعلام وتنظيم حملات التأييد والمباركة ومهاجمة كل من يقدم نقدا موضوعيا وطرحا وطنيا يعالج الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الشاملة أو يهاجم ممارستهم الاستغلالية.

المساهمون