في السودان... الطعام مطلب ثوري

في السودان... الطعام مطلب ثوري

06 يوليو 2021
(فرانس برس)
+ الخط -

يعاني السودان أزمة اقتصادية مركبة، تركت تبعتها على الأوضاع المعيشية لمواطنيها، وحسب تقارير أممية، يفتقر 20 بالمائة الأمن الغذائي من إجمالي عدد السكان البالغ 43 مليوناً، غير أن هناك فئات أكثر تضرراً، وافتقاراً للأمن الغذائي، من ضمنهم النازحون داخلياً بسبب أحداث عنف وصراعات مناطقية وقبلية وسياسية، عادت وتجدد بعضها مؤخراً، فيما يعرف بعنف ما بعد الثورات، بالإضافة إلى النازحين من جنوب السودان وقدر عددهم بنحو 850 ألفاً خلال 2019، بالإضافة إلى 40 ألف لاجئ إثيوبي بشرق السودان، بينما هناك تقديرات للمفتقرين للأمن الغذائي تتجاوز 6 ملايين. 

للجوع والأزمات الغذائية في السودان تاريخ طويل، عانى منه الملايين خاصة في مناطق الهامش والذي استخدم فيه التجويع والإهمال كعقاب للحركات المسلحة التي تمردت على المركز منذ منتصف الخمسينيات، ورغم تراجع وتيرة الصراعات المسلحة مع انفصال الجنوب (يوليو/ تموز 2011) وتوقيع اتفاقات متتالية لإنهاء الحرب، إلا أن السلام لم يتحقق بشكل كامل حتى مع جهود الحكومة الانتقالية الأخيرة، فضلاً عن أن آثار التهميش وتردي الأوضاع الاقتصادية تترك ملامحها وتوسع دوائر الفقر والجوع وافتقاد الأمن الغذائي.

لذا حين يرفع أحد المتظاهرين شعار "الطعام مطلب ثوري" فإنه يمس عمق الأزمة الاقتصادية، ويؤكد على مضمون اجتماعي لبرنامج الثورة في العدالة، وهو شعار صادق وواضح وحاد، يحمل إشارة تحذير عن وضع خطر، هناك جوعى، وأولى المهام توفير الطعام، ولا يمكن احتمال أن تضيف سياسات حكومة ما بعد الثورة أعباء جديدة، على ما تحمله السودانيون، من نتائج صراعات سياسية وحروب، وشهدت تردياً اقتصادياً، فاقم أزمة إنسانية بالمجتمع، وللمفارقة يمتلك البلد مساحات شاسعة للزراعة، غير ثروة حيوانية ضخمة.

بحسب مرصد أسعار الأغذية التابع لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو"، كان السودان منتصف العام الجاري في الترتيب الرابع ضمن دول تشهد أسواقها ارتفاعاً في الأسعار، وفي مقدمتها الأرجنتين والبرازيل ونيجيريا، وساهمت معدلات التضخم المرتفعة وانخفاض القوة الشرائية مع انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار في تفاقم الأزمة، وكانت أبرز السلع التي ارتفعت أسعارها منذ 2019 المواد الغذائية ومنها الدقيق والمحاصيل الزراعية واللحوم، وهناك مؤشرات إلى تصاعد أسعار الغذاء ثلاث مرات خلال 2020.

لم تتحقق وعود حكومة عبد الله حمدوك بتحسين الوضع المعيشي لأسباب عدة، منها المراهنة على المساعدات الخارجية والتعويل على نتائج مؤتمر أصدقاء السودان، بالإضافة إلى نقص حاد في التمويل لا يسمح بدعم قطاعات إنتاجية تستطيع انتشال السودان من عثرته، غير ضعف في معدلات الاستثمار وعدم الإيفاء بوعود عربية وأوربية بدعم السودان، واستمرار انسداد أبواب تعاون اقتصادي محتمل، كما تركت كورونا آثارها الاقتصادية على السودان كاقتصاد هش.

وحذرت جهات أممية من أزمة غذاء بالسودان والشرق الأوسط مع الجائحة، وتناول رئيس الوزراء السوداني حمدوك المشكلة بمنظور أممي، توفير الغذاء والقضاء على الجوع، وهو الهدف الثاني من أهداف التنمية المستدامة، لكن وحسب مؤشرات أممية لم تتعامل الهيئات الدولية مع قضية الأمن الغذائي بالسودان بالقدر الكافي من المسؤولية. 

على جانب آخر لم تأخذ الحكومة من مخرجات مؤتمر الاقتصادي القومي 2020 إلا ما يساير مخططات الإصلاح الاقتصادي المرتبطة بمؤسسات الإقراض، ومنها ما أعلنه بنك السودان المركزي من إجراءات تعالج خلل السياسات المالية، بهدف الوصول إلى الاستقرار المالي والنقدي، وانخفاض نسبة التضخم إلى 95 بالمائة، ورفع الدعم عن بعض السلع، لكن نسب التضخم ارتفعت بشكل مخيف ولم تحقق الموازنة العام الماضي ما خطط له من إيرادات.

صحيح أن الأزمة الاقتصادية هيكلية وجذورها أبعد، لكن حكومة حمدوك أخفقت في ملفات عدة، أضافت إلى أزمة الاقتصاد الهيكلية، والمتعلقة بتخلفه وضعف بنيته الصناعية، واعتماده على تصدير مواد أولية زراعية ومعادن، أي أن للأزمة جناحين، الأول وضع الاقتصاد السوداني، والثاني خط التوجهات الحالية في معالجة الأزمة، والذي تمثل في تبني برنامج الإصلاح الاقتصادي القاسي، كأحد شروط الإقراض من مؤسسات دولية، أخيراً وعد صندوق النقد بإقراض السودان، بعد أن رفع الحظر والعقوبات الاقتصادية، لكن هذه الإجراءات ليست شرطاً للإقراض فحسب بل ترى كتلة أنها السبيل لعلاج خلل الاقتصاد السوداني الهيكلي، وتخفيف الأعباء على الموازنة ومنها إجراءات رفع الدعم.

مؤشرات اقتصادية 

ضمن آثار انفصال جنوب السودان، حدث خلل ضخم في الميزان التجاري، عمق الأزمة الاقتصادية، وتراجعت الصادرات عام 2012 إلى حدود 4 مليارات بعد أن كانت تتجاوز 10 مليارات، واستمرت الأزمة في التصاعد حتى 2020 والذي شهد تراجعاً طفيفاً في صادرات الصمغ بالمقارنة بمؤشرات 2017، بينما ارتفعت صادرات بعض الحاصلات الزراعية، ومنها الفول السوداني والسمسم (788 مليوناً عام 2020)، وبشكل لافت ارتفعت صادرات الذهب لتبلغ 1.5 مليار دولار، وإجمالاً كانت صادرات العام الماضي 3 مليارات دولار و802 مليون، وقاربت الواردات 10 مليارات، لينتج عجز تجاري 6 مليارات عام 2020. 

وتصاعد التضخم في شهر يونيو/ حزيران 2020 ليصل إلى 136 بالمائة، وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي 269 بالمائة، وفي أعلى ارتفاع للتضخم وصل خلال يونيو/ حزيران الماضي 363 بالمائة، ليكون المحطة الرابعة في سلسلة ارتفاعات ملحوظة بالسودان، إذ بلغ التضخم في عام الأزمة المالية العالمية 2008 نسبة 14.3 بالمائة، وبعد انفصال الجنوب تخطّى 35 بالمائة عام 2012، وتجاوز 40 بالمائة في 2014، وفي نهاية 2018 تجاوز حدود 60 بالمائة.

ويمكن تتبع حركات الاحتجاج وتصاعدها بالمقاربة مع معدلات التضخم، وانخفاض الناتج المحلي، وعجز الميزان التجاري، وتأثيرات ذلك من ارتفاع أسعار الغذاء والسلع الأساسية وسلسلة إجراءات رفع الدعم، وبالتزامن مع المستجدات الاقتصادية تلك، اندلعت تظاهرات وتحركات احتجاجية عامي 2008/ 2009، وانتفاضة سبتمبر 2013 ثم مظاهرات 2018 والتي أفضت إلى ثورة شعبية، وهنا لا يمكن فصل المظاهرات الأخيرة عن مؤشرات الاقتصاد كعامل أساسي للاحتجاج.

كل ذلك يضاف إلى حجم الديون (60 مليار دولار) وأعباء سدادها مع الفوائد، واعتماد السودان على تصدير المواد الخام وبعض الحاصلات الزراعية كمورد أساسي، في ظل عزلة اقتصادية، وشهد الجنيه السوداني انهياراً لا مثيل له أمام سعر صرف الدولار، مما عمق الأزمة وخفض القدرة الشرائية للمواطنين، وساهم في رفع الأسعار، كل هذا عمق أزمة الأمن الغذائي، وشهدت السودان أزمة عميقة منذ 2014 بحسب تقارير محلية ودولية، وقدرت الفاو حينها وجود 3.3 ملايين شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي، وخلال 2019 قدر برنامج الأغذية العالمي حجم الاحتياجات، مشيراً إلى حاجة 9.3 ملايين شخص للدعم الإنساني في 2020، وارتفاع مؤشرات انعدام الأمن الغذائي لنحو 6.2 ملايين شخص، ويعد النازحون واللاجئون والعمالة غير المنظمة، والعاملون في قطاع الرعي والزراعة أكثر الفئات تأثراً من ارتفاع أسعار الغذاء، خاصة حين تتشابك عوامل الحرب مع تخلف نظم الزراعة، مما يؤثر على إنتاج الغذاء وبالتالي ارتفاع أسعاره.

غالباً ما ترتبط خرائط الجوع مع النزوح وأماكن اللاجئين، لتكون المناطق الأكثر تعرضاً لأزمة الغذاء ولايات شهدت حروباً وصراعات وتهميشاً، منها كردفان، دارفور، النيل الأزرق، لكن الأزمة اتسعت ولم تعد مرتبطة بظروف استثنائية كالحرب والنزوح، وباتت الأزمة الاقتصادية تؤثر بشكل عام على أغلب السودانيين. 

المساهمون