عن صفقة "رأس" الحكمة في مصر

عن صفقة "رأس" الحكمة في مصر

28 فبراير 2024
مازالت البنوك المصرية تعاني من عجز في صافي الأصول بالعملة الأجنبية (فرانس برس)
+ الخط -

مع الإعلان عما تمت تسميته بالخطأ "تفاصيل صفقة رأس الحكمة" والذي كانت المعلومات المخفية فيه أكثر من المعلنة، استبعدتُ الرؤى السهلة التي تعامل بها البعض مع الموضوع، وأدت بهم لرفضه بعد لحظات من عرضه على شاشات التلفزيون المصري.

نحيت جانباً التفكير في كارثة الاستمرار في حل أزماتنا عن طريق بيع الأراضي والأصول المصرية، ومشكلة التقارب الإماراتي الإسرائيلي الذي يتضح لنا يوماً بعد يوم، ومأساة فرض الأمر الواقع على المصريين دون إشراكهم أو من انتخبوهم بصورة جادة، ومنهم من ستتم "إزاحته" من المنطقة، وحاولت رؤية الأمور بمنظار من اتخذوا القرار.

استبعدت هذه الأمور رغم اقتناعي الكامل بأهميتها، فقط لمحاولة استشراف تأثير الصفقة الضخمة على أزمة العملة الأجنبية في مصر، وبصورة عملية بحتة، لا تأخذ في الاعتبار إلا الحسابات الاقتصادية، وفي ضوء ما هو متاح لنا من أرقام معلنة.

كان أول ما لفت نظري وجود بعض الاختلافات الهامة بين ما هو معلن من الجانب المصري، ممثلاً في رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وما هو معلن من جانب المسؤولين الإماراتيين.

وفي حين أشار مدبولي إلى أن الصفقة كانت بين الحكومة المصرية وصندوق أبوظبي للاستثمار، وأنها تشمل استثمارات أجنبية تدخل لمصر، على مدار فترة تنفيذ المشروع محل الشراكة، تقدر بنحو 150 مليار دولار، قال المسؤولون الإماراتيون إن هذا المبلغ يمثل ما سيعمل المشروع على اجتذابه من استشارات أجنبية مباشرة.

ثم كان ما يخص، الـ35 مليار دولار، التي قال مدبولي إنها ستدخل مصر خلال شهرين، قبل أن يتم الإعلان بوضوح عن حجم الاستثمار الموجه للمشروع الجديد منها، والمقدر بـ24 مليار دولار فقط، بينما تمت الإشارة إلى أن 11 مليار دولار أخرى، من ودائع الإمارات لدى البنك المركزي المصري، سيتم توجيهها لـ"مشروعات صندوق أبوظبي في مصر". ومع العلم أنها كانت مودعة لدى البنك المركزي من فترة، فهذا يعني أن هذا الشق من الصفقة لن يأتي بجديد للبلاد.

سيدخل مصر إذا، وفقاً للبيانات المعلنة، 24 مليار دولار، خلال الشهرين القادمين. ومع افتراض أن إنشاءات مشروع بهذا الحجم لن تتطلب المزيد من الاستيراد من الحديد، والطاقة، والكثير من المنتجات المستخدمة في الفنادق المزمع إقامتها ضمن المشروع، فسيتم توجيه تلك الأموال لسد الفجوات الموجودة بالفعل لدينا منذ عدة أشهر، والمتلهفة للدولار.

أولى الفجوات أهمية ستكون بالتأكيد تلك الخاصة بالبضائع العالقة بالموانئ، ومنها ما يخص سلعا أساسية من منتجات غذائية وخلافه، مما كان له الدور الأكبر في ارتفاع الأسعار في مصر خلال الفترة الماضية. وتقدر المبالغ المطلوبة للإفراج عن تلك البضائع بما يتراوح بين 6 إلى 8 مليارات دولار.

أيضاً مازالت البنوك المصرية تعاني من عجز في صافي الأصول بالعملة الأجنبية، وهو ما نتج من بيع الدولار لبعض العملاء، أو في بعض أنواع المعاملات، على المكشوف، أي من ودائع العملاء. وفي حين تشير أحدث بيانات رسمية إلى تجاوز العجز مبلغ 27 مليار دولار، يدرك المركزي المصري بالتأكيد أن البنوك تسعى جاهدة لسد هذا العجز، الذي يكبدها خسائر جمة، مع كل ارتفاع في السعر الرسمي للدولار.

ووفقاً لبيانات البنك المركزي نفسه، فإن مصر مطالبة بسداد مبلغ 6.7 مليارات دولار لصندوق النقد الدولي هذا العام، بخلاف ما تطلب الشركات الأجنبية العاملة في البلاد تحويله إلى بلدها من أرباح تحققت عن العام الماضي، بالإضافة إلى المدفوعات الدولارية المعتادة لاستيراد وسفر المصريين، ولأعمال البناء والتعمير في مختلف أنحاء البلاد، ولمستلزمات الإنتاج لدى الشركات العاملة في مصر، ضمن مصاريف أخرى بالعملة الأجنبية.

كل هذه الأرقام تشير إلى أن العجز الدولاري في مصر مازال كبيراً، وإن دخلت عليه استثمارات الإمارات. وهذا يعني أن الأمر ربما يتطلب، من وجهة نظر القائمين على الأمر، بيع "قطعة أو قطع أخرى"، ربما للسعودية أو قطر، لجذب المزيد من المليارات، لمقابلة الطلب النهم على العملة الأجنبية في مصر.

ولا يفوتنا بالتأكيد الإشارة إلى تنامي النفوذ "الدولاري" الخليجي في "أم الدنيا"، وفي مقدمته نفوذ الإمارات، التي كانت ومازالت تقود عمليات التطبيع مع دولة الاحتلال، في ذات الوقت الذي تقوم فيه الدولة العبرية بعمليات إبادة جماعية لإخواننا الفلسطينيين في غزة، كما في كل الأراضي المحتلة.

ولا أعرف إن كان المسؤولون المصريون معنيين بهذا الأمر أم لا، ولكن توغل الإمارات والسعودية تحديداً في الاقتصاد المصري أصبح مثيراً للقلق خلال الفترة الأخيرة. فالإمارات لديها حالياً خمسة بنوك تعمل في مصر، بالإضافة إلى مؤسسات مالية أخرى، بينما اقتربت السعودية قبل فترة من إتمام صفقة شراء أحد البنوك المملوكة للدولة.

وأجريت خلال السنوات الأخيرة مجموعة من عمليات الاستحواذ التي منحت السعودية والإمارات السيطرة على نسبة لا يستهان بها من مؤسسات التعليم والصحة وإنتاج الدواء والإنشاءات في "المحروسة"، ما اعتبره البعض "تخلياً للدولة عن دورها في تقديم الخدمة أو رقابتها"، وهو ما أدى إلى اقتراب الأمر من أن يكون احتكارا لا استثمارا، في بعض القطاعات.

صفقة "رأس الحكمة" إذاً، وبالإضافة لما تمثله من تزايد للنفوذ الإماراتي في مصر، في واحدة من أجمل بقاع الأرض، وبما لها من أهمية استراتيجية يدركها جيداً خبراء الجغرافية السياسية، لن تكون وحدها كافية لسد احتياجات البلاد من العملة الأجنبية لأكثر من عدة أشهر. ربما تسمح الصفقة بتعويم الجنيه بخسائر أقل في قيمته، وربما تسمح بتضييق الفجوة بين السوق الرسمية والسوق الموازية خلال الفترة القصيرة القادمة، ولكنها بالتأكيد لن تقضي، وحدها، على السوق الموازية.

أقول ذلك لحين اتضاح ما خفي علينا من تفاصيل الصفقة، وحتى لا يتسرع من في رأسه الحكمة، فنسمع عن احتفالات تدشين المرحلة الأولى من خطوات تشغيل "مونوريل" جديد، يربط بين العاصمة الإدارية ومنطقة "رأس الحكمة".

المساهمون