خذوا العبرة من الأرجنتين

خذوا العبرة من الأرجنتين

27 مارس 2022
زيادة حدة الفقر وتراجع المؤشرات المالية في الأرجنتين (فرانس برس)
+ الخط -

في شهر يونيو/حزيران 2018 أبرمت الأرجنتين في عهد الرئيس السابق ماوريسيو ماكري، اتفاقية مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 57 مليار دولار، كان هذا القرض حديث العالم كله في ذلك الوقت حيث كان أكبر قرض يقرر الصندوق منحه لدولة في تاريخه.

في ذلك الوقت خرج النظام الحاكم في العاصمة بوينس أيرس متحدثاً عن أهمية القرض في مساعدة البلاد على تحقيق الإصلاح الاقتصادي والاستقرار المالي، والخروج من حالة الكساد التي تمر بها البلاد، ومن عنق الزجاجة الضيق، وتوديع الأزمات المالية الخانقة التي تمر بها البلاد، وتحقيق انتعاش واسع، ووقف تهاوي العملة الوطنية البيزو.

بل وعد النظام المواطنين بسنوات من الرخاء والرفاه والثراء وخفض الأسعار، واستعادة هيبة العملة المحلية، وخلق ملايين من فرص العمل للعاطلين عن العمل، وتحقيق معدلات نمو عالية، وسداد الديون المستحقة على البلاد في مواعيدها، وإعادة الاستقرار لسوق الصرف الأجنبي الهائج، والتوقف عن الاعتماد على الأموال الساخنة في تمويل عجز الموازنة ودعم البيزو، واعادة هيكلة 66 مليار دولار من الديون الخارجية.

عادت الأرجنتين لتحصل على قرض جديد من الصندوق بقيمة 44 مليار دولار لدعم اقتصادها المتهاوي، وسداد ديون عاجلة قيمتها 19 مليار دولار مستحقة عليها

لكن وبعد أقل من 5 سنوات تبخرت تلك الوعود وتحولت إلى سراب، وعادت الأرجنتين أمس السبت 26 مارس 2022 لتحصل على قرض جديد من الصندوق بقيمة 44 مليار دولار لدعم اقتصادها المتهاوي، وسداد ديون عاجلة قيمتها 19 مليار دولار مستحقة على البلاد وسط أزمة اقتصادية عاتية عبرت عنها المديرة العامة للصندوق، كريستالينا غورغيفا قبل أيام حيث أشارت إلى أن "دخل الفرد منخفض في الأرجنتين، ومستويات فقر مرتفعة، وتضخم شديد متواصل، وعبء دين شديد، واحتياطات خارجية ضعيفة".

وما بين القرضين 2018-2022 وقبلهما عاشت الأرجنتين أزمات عنيفة تحت حكم ووصاية صندوق النقد، وشهدت كل أنواع الفشل الاقتصادي المدمر لدولة تصنف على أنها صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، وغرقت في وحل الديون والعجز عن سداد الديون الخارجية، وعاشت قلاقل سياسية واجتماعية لا تنتهي، خصوصاً مع تضخم جامح للأسعار لم تشهده دولة في العالم، باستثناء السودان، حيث تجاوز المعدل بها 52%.

وسعت الحكومات المتعاقبة للحصول على قروض من شتى المؤسسات، مع قيامها برفع سعر الفائدة بمعدلات قياسية للحيلولة دون تهاوي البيزو والحد من تأثيرات التضخم القاتلة والحفاظ على الأموال الساخنة، بل أعلنت الدولة إفلاسها عدة مرات عقب عجزها عن سداد ديونها الخارجية.

لا مؤشرات تدعو للتفاؤل بنجاح تجربة صندوق النقد الدولي هذه المرة مع الأرجنتين التي عانت من أزمات عنيفة في سنوات سابقة كما حدث في الفترة من 1998 إلى 2002، خصوصاً مع تأزم الوضع الاقتصادي في البلاد حالياً، وغلاء الأسعار، وسوق صرف مضطرب خسر فيه البيزو 35% من قيمتها منذ بداية يناير/كانون الثاني الماضي، وزيادة الاحتجاجات وعمليات السلب والنهب، وزيادة نسبة الفقر إلى 40%، وسحب ملايين الدولارات من البنوك.

لا مؤشرات تدعو للتفاؤل بنجاح تجربة صندوق النقد الدولي هذه المرة مع الأرجنتين التي عانت من أزمات عنيفة في سنوات سابقة كما حدث في الفترة من 1998 إلى 2002

والنظام الحاكم في بوينس أيرس شأنه شأن المقترضين الآخرين حول العالم همه الأول هو نيل رضا الصندوق وأصحاب القرار به، تارة بالسماح بتعويم عملة البيزو، وأخرى بالإجراءات التقشفية الحادة وزيادة أسعار السلع والخدمات بما فيها الكهرباء والمياه والوقود، وثالثة بزيادة الضرائب والرسوم، وربما مصادرة الودائع الدولارية بالبنوك وتحويلها إلى عملة محلية كما حدث في سنوات سابقة.

وفي المقابل لا يريد الصندوق أن يعترف بفشله في تجربة الأرجنتين وغيرها من الدول التي تغترف حكوماتها المليارات منه، لأن همه الأول هو تزيين واجهات المنازل، أي المؤشرات الاقتصادية من معدل النمو وعجز الموازنة وغيرها، خاصة في الدول المستبدة التي تحكمها ديكتاتوريات.

أما ما يتعلق بداخل المنزل، أي المواطن والأسعار والأسواق والتشغيل والفقر، فلا يهم الصندوق من قريب أو بعيد. والدليل أن المؤسسة المالية لم تلزم حكومات الدول المقترضة مثلا بمكافحة الفقر والغلاء وحماية الطبقات الأشد فقرا، ولم تحث على مكافحة الفساد وخفض الضرائب والاهتمام بأنشطة إنتاجية مثل التصنيع والتصدير، وآخر ما يشغل صندوق النقد هو توفير فرص عمل لملايين العاطلين.

المتغطي بصندوق النقد عريان، ولتأخذ دول المنطقة المهرولة نحو الصندوق عبرة من الأرجنتين وغيرها من الدول التي أغرقها في وحل الديون، ويجب على الصندوق أن يدفع ثمن إخفاقاته الفادحة في الدول التي أبرم معها اتفاقات قروض، يكفيه أنه أدخل الدول الدائنة في دوامة القروض الخارجية، تقترض لسداد أعباء ديون، تخفض عملاتها الوطنية لمصلحة المستثمرين الأجانب، تدفع أسعار فائدة عالية لأصحاب الأموال الساخنة الذين يهربون عند حدوث أي خطر ولو كان طفيفا.

قروض الصندوق ليست حلا لمواجهة الأزمات الاقتصادية، الحلول تبدأ من الداخل، مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة، والتوقف عن إهدار المال العام، وعدم التفريط في أصول الدولة

قروض الصندوق ليست حلا لمواجهة الأزمات الاقتصادية، الحلول تبدأ من الداخل، تبدأ من مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة، والتوقف عن إهدار المال العام، وعدم التفريط في أصول الدولة، والاستفادة من موارد الدولة المالية والاقتصادية والبشرية، وتشجيع الاستثمار المباشر لا الأموال الساخنة، وخلق فرص عمل.

وأن يكون الحاكم قدوة لشعبه، فعندما يشعر المواطن أنّ رأس الدولة قدوة في الانفاق والحرص على المال العام، هنا يمكنه تحمل أي قرارات وأعباء معيشية على أمل تحسن الوضع في المستقبل، أما الاستسهال في الاقتراض، والاستدانة أكثر للسداد فهذا يغرق الدول ولا يعومها، ويجعل المواطن رافضاً للمشاركة في تحمل أي عبء معيشي حتى لو كان بسيطاً.

المساهمون