حزمة الدعم البريطانية تثير موجة انتقادات: مخاوف من تعميق الركود

حزمة الدعم البريطانية تثير موجة انتقادات: مخاوف من تعميق الركود

24 سبتمبر 2022
قلق من تزايد نسب التضخم (Getty)
+ الخط -

أثار إعلان كواسي كوارتينغ وزير الخزانة البريطاني، أمس الجمعة، عن أكبر حزمة تخفيضات ضريبية منذ نحو 50 عاماً، ردود فعل واسعة في الأوساط الاقتصادية والمالية والسياسية في البلاد، وسط مخاوف من تعميق الركود في البلاد.

القرار، الذي جاء على شكل إعلان ميزانية مصغر ألقاه الوزير أمام البرلمان، شمل حوافز ضريبية غير مسبوقة ضمت خفضاً على الشريحة الأساسية لضريبة الدخل من 20 بالمائة إلى 19 بالمائة، وخفضاً على الشريحة العليا من أصحاب الدخل المرتفع من 45 بالمائة إلى 40 بالمائة، وهي التخفيضات التي تعني خفضاً ضريبياً يستفيد منه نحو 31 مليون مواطن بريطاني.

وضمت الحوافز إلغاء الحد الأقصى الذي كان مفروضاً على مكافآت مديري البنوك، إذ يرى وزير الخزانة أن "قوة الاقتصاد البريطاني كانت تعتمد دائماً على قطاع الخدمات المالية القوي"، مضيفاً أنه يريد أن تقوم البنوك العالمية "بخلق وظائف والاستثمار ودفع الضرائب هنا في لندن، وليس في باريس أو فرانكفورت أو نيويورك"، وشملت الحزمة أيضاً خفضاً على الضريبة العقارية المفروضة على شراء المنازل، وإلغاء زيادة كانت مقررة على أرباح الشركات بنسبة 6 بالمائة، وهو الإلغاء الذي سيكلف الخزانة العامة أكثر من 15 مليار جنيه إسترليني.

الإعلان عن التخفيضات الضريبية، الذي وصفته الحكومة بأنه "خطة النمو"، سُمِع صداه بشدة في أسواق المال والعملات بعد ساعات قليلة من بيان وزير الخزانة، فالجنيه الإسترليني هبط لأدنى مستوى له أمام الدولار منذ 37 عاماً، إذ تراجع بنسبة 3 بالمائة، مسجلاً 1.09 سنت، ليضيف إلى سلسلة التراجعات التي شهدتها قيمة العملة البريطانية في الآونة الأخيرة أمام الدولار، كما تراجعت الأسهم في بورصة لندن أمس بنحو 2 بالمائة على إثر إعلان الخطة.

انقسام المحللين

وتأتي هذه الحوافز الضريبية تطبيقاً لسياسة ليز تراس رئيسة الوزراء، التي تولّت مقاليد الحكم مطلع الشهر الجاري خلفاً لبوريس جونسون، وهي سياسة تقوم على مواجهة أزمة غلاء المعيشة والتضخم غير المسبوقة، واستباق دخول الاقتصاد في حالة ركود طويلة، بحزمة تخفيضات ضريبية لجميع الشرائح الضريبية، بما فيها الطبقة الغنية، ودعم حكومي لفواتير الطاقة للأفراد والشركات لحمايتهم من الزيادة الكبيرة في أسعار الغاز والكهرباء.

وخلافاً للحكومة المحافظة السابقة، التي كانت تعتمد زيادة الضرائب على الأفراد وأرباح الشركات، وزيادة استقطاعات التأمينات الاجتماعية لخفض الدين العام، تأتي سياسة حكومة تراس معتمدة بشكل أساسي على الاقتراض لسد العجز في الميزانية، وهو الأمر الذي سيرفع فاتورة الاقتراض الحكومي لمستويات غير مسبوقة.

وأحدثت خطة النمو انقساماً واسعاً بين المراقبين والمحللين الاقتصاديين والمؤسسات التي تقيس الأداء الاقتصادي في البلاد، ويقول بول جونسون أستاذ السياسات العامة في جامعة "يونيفيرسيتي كوليدج لندن"، في تصريح لوكالة الأنباء القطرية: "إن حزمة التخفيضات الضريبية التي أعلنها وزير الخزانة تعد مخاطرة كبرى"، مشيراً إلى أن "ضخ أموال بهذا الحجم في الاقتصاد، في وقت ما زال فيه التضخم مرتفعاً للغاية، هو بمثابة مقامرة كبرى".

ويضيف أن وزير الخزانة يرغب في المغامرة بالاستدامة المالية لتنفيذ هذه التخفيضات الضريبية، غير مبالٍ بمخاطر زيادة التضخم وما سيتبع ذلك من زيادة في أسعار الفائدة.

غير أن كوارتينغ الذي تولى مقاليد الخزانة في حكومة تراس منذ نحو أسبوعين فقط رد على من وصفوا إعلان الحوافز الضريبية بأنها "مقامرة"، بالقول، في تصريح لهيئة الإذاعة البريطانية، إن ما أعلنه لا يدخل في نطاق "المقامرات"، مؤكداً أن "المقامرة الحقيقية كانت الاستمرار في اتباع النهج الذي كنا عليه"، وأن عدم خفض الضرائب والاستمرار في اتباع سياسة الحكومة السابقة كانت فيه مخاطرة أكبر.

الانتقادات والمخاوف حول التخفيضات الضريبية لم تقتصر على اعتبار البعض لها بأنها مقامرة، فكثيرون من أوساط المعارضة، وحتى من داخل نواب حزب المحافظين الحاكم اعتبروا خفض الضرائب على الشريحة الأغنى من السكان غير ملائم سياسياً، في ظل ما يعانيه غالبية المواطنين من أزمة غلاء معيشية غير مسبوقة.
ويقدر معهد الدراسات المالية بأن نحو نصف التخفيضات الضريبية على الدخل ستذهب لأغنى 5 بالمائة من السكان، حيث سيوفر شخص دخله مليون جنيه إسترليني سنوياً ما قدره 40 ألف جنيه كانت ستحصل منه الحكومة في شكل ضريبة على الدخل، وهو عكس الضريبة التصاعدية التي كانت تنوي حكومة جونسون تطبيقها على الشرائح الأعلى من الدخل.

إثقال الميزانية العامة

منتقدو سياسة خفض الضرائب يعتبرونها عبئاً هائلاً على ميزانية الدولة، إذ ستكلف الخزينة العامة للدولة نحو 45 مليار جنيه، وهي أكبر خفض في الضرائب منذ عام 1972، ويرى مركز "ريسولوشن فاونديشن" البحثي أن خطة وزير الخزانة ستؤدي إلى تحفيز النمو الاقتصادي على المدى القريب، لكنها ستضطر بنك إنكلترا، البنك المركزي، إلى رفع أسعار الفائدة أكثر من مرة لكبح التضخم المتوقع.
ويلفت إلى أن تلك الخطة ستصل بحجم الاقتراض الحكومي إلى حدود 411 مليار جنيه إسترليني على مدار السنوات الخمس المقبلة، واعتبرت المؤسسة أن المخاطرة تكمن في أن كلفة التخفيضات ستكون ضخمة جداً عندما تضاف إلى كلفة دعم أسعار الطاقة للأفراد والمواطنين، والتي ستبلغ 150 مليار جنيه إسترليني.
ارتفاع الاقتراض الحكومي لمستويات غير مسبوقة في تاريخ بريطانيا هو أكثر ما يقلق المحللين الاقتصاديين، فالدين الحكومي سيرتفع إلى مستويات قياسية، وهو ما يمثل تراجعاً كاملاً عن سياسة المحافظين التي لطالما دافعوا عنها، وهي الإبقاء على فائض في الميزانية، والحفاظ على حجم الاقتراض في حدوده الدنيا، لكن أزمة جائحة فيروس كورونا، التي شكّلت صدمة للاقتصاد البريطاني خلال العامين الماضيين، وما تبعها من أزمة ارتفاع أسعار الطاقة جراء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي نجم عنها ارتفاع أسعار النفط والغاز عالمياً، أطاحا أحد أهم ثوابت السياسة المالية لحزب المحافظين منذ عقود.
وجاء الإعلان عن خطة النمو لتكون بمثابة القطيعة مع العرف الذي ساد لعقود بين وزراء الخزانة المتعاقبين، وهو تطبيق خفض ضريبي فقط لصالح الفئات الأقل دخلا، وعدم اللجوء للاقتراض لتمويل الإنفاق اليومي للحكومة.
ويقول تورستين بيل، الرئيس التنفيذي لمؤسسة "ريسولوشن فاونديشن": إن "كل الأعراف التي كانت تتبعها وزارة الخزانة في السابق تم تمزيقها من أجل تحفيز النمو الاقتصادي من خلال خفض الضرائب"، مضيفاً أنه بينما ساعدت خطة الدعم الحكومي على تخفيف آثار الزيادة في أسعار فواتير الكهرباء والغاز لمحدودي الدخل والأغنياء على حد سواء، فإن خفض الضرائب لن يفيد محدودي ومتوسطي الدخل كثيراً.
من جهته، يرى ميل سترايد رئيس لجنة الخزانة بمجلس العموم البريطاني، وهو عضو بحزب المحافظين الحاكم، أنه كان ينبغي لمكتب المسؤولية عن الموازنة، وهو هيئة مستقلة تراقب السياسات المالية لوزارة الخزانة، أن يراجع الخطة الحكومية قبل إعلانها من قبل وزير الخزانة، وأن أسواق المال لم تكن بحاجة لمعرفة كلفة الإجراءات الحكومية فقط، "بل كانت بحاجة لمعرفة كيفية توافق هذه الخطة مع التوقعات المستقبلية لحالة الاقتصاد".
أما مؤيدو خطة النمو، ومعظمهم من نواب الحزب الحاكم ومسؤولون بالحكومة، فيرون فيها خطة جريئة وإظهاراً لمعدن الحزب المحافظ، وإعلاء لقيمه التي تتمحور دائماً حول خفض الضرائب على كافة الشرائح الاجتماعية، وعلى الشركات من أجل تحفيز النمو، فضلاً عن أنها تميز السياسة المالية للمحافظين عن سياسة حزب العمال المعارض، الذي دائماً ما كان يزيد الضرائب التصاعدية لتحقيق العدالة الاجتماعية بين طبقات المجتمع.
(قنا، العربي الجديد)

المساهمون