تهجير غزة بعد تدمير أنفاق رفح

تهجير غزة بعد تدمير أنفاق رفح

11 ديسمبر 2023
ما دخل من مساعدات إنسانية لا يمثل 2% من الاحتياجات (فرانس برس)
+ الخط -

بعد مرور شهرين من بدء العدوان على قطاع غزة، كشفت عمليات الجيش الإسرائيلي عن مخطط تهجير سكان شمال القطاع إلى جنوبه.

ورجحت تقارير غربية أن تكون شبه جزيرة سيناء المصرية هي الوجهة النهائية التي ينوي جيش الاحتلال إجبار سكان الشمال والجنوب على النزوح إليها.

وأعلن الجيش عن مناطق آمنة في جنوب القطاع، ونصح السكان في الشمال بالتوجه إليها، ثم ركز عدوانه وقصفه الأرعن على كل المناطق، دون استثناء شبر واحد منها دون قصف، مستهدفا تحويل القطاع إلى مكان غير صالح للسكنى، وإنهاء الوجود الفلسطيني في القطاع، إما بالقتل أو التهجير القسري أو التجويع تحت القصف.

ويستخدم الجيش "التجويع" كسلاح لتنفيذ هدف التهجير، بما في ذلك قصف وتدمير المخابز والمصانع والمتاجر الغذائية ومحطات وخزانات المياه. وكذلك "الحصار الكامل" على القطاع، ومنع وصول إمدادات الغذاء والماء والكهرباء والوقود.

وعندما سمح بدخول بعض المساعدات عبر معبر رفح، اتبعت حكومة الاحتلال سياسة معقدة لعرقلة دخول المساعدات الإنسانية الحقيقية وبالكميات الكافية عبر معبر رفح الحدودي مع مصر إلى القطاع.

ومنع الجيش إيصال أي أغذية أو أدوية أو وقود لمناطق شمال قطاع غزة، رغم وجود 800 ألف شخص هناك رفضوا النزوح للجنوب. كل ذلك تم بغطاء سياسي ودعم لوجستي أميركي كامل، وبصمت المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومنظماتها العاملة في القطاع تارة، وتواطؤها تارة أخرى. 

مخطط تجويع مكشوف 

فضح المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني مخطط التجويع بقوله "لنكن واضحين، العدد القليل لقوافل المساعدة التي سمح لها بالدخول عبر رفح لا يقارن بحاجات أكثر من مليوني شخص عالقين في غزة"، وإن "الترتيب الراهن" محكوم عليه بالفشل ما لم تتوافر إرادة سياسية لجعل تدفق المساعدات جادا ومتلائما مع الاحتياجات الإنسانية غير المسبوقة.

يستخدم الجيش "التجويع" كسلاح لتنفيذ هدف التهجير، بما في ذلك قصف وتدمير المخابز والمصانع والمتاجر الغذائية ومحطات وخزانات المياه

وقالت منظمة أوكسفام إن "التجويع" يستخدم "كسلاح حرب" ضد المدنيين في غزة، من خلال منع دخول الغذاء والماء والوقود وغيرها من الضروريات بكميات كافية.

وبعد تحليل بيانات الأمم المتحدة، وجدت المنظمة أن 2% فقط من المواد الغذائية التي كان من المقرر تسليمها دخلت إلى غزة منذ فرض الحصار الشامل في 9 أكتوبر/تشرين الأول، ورغم السماح بدخول كمية صغيرة من المساعدات الغذائية، لم يتم إدخال أي واردات غذائية للتداول التجاري بين السكان

وفضحت المديرة الإقليمية لمنظمة أوكسفام للشرق الأوسط، سالي أبي خليل، تعريض الملايين من المدنيين في غزة للعقاب الجماعي على مرأى ومسمع من العالم، ودون أن يكون هناك أي مبرر لاستخدام المجاعة كسلاح في الحرب، ووجهت توبيخا لزعماء العالم المستمرين في الجلوس في مقاعد المتفرجين، والتخلي عن دورهم في التحرك الآن ضد التجويع والحصار.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وتساءلت أبي خليل في حسرة عن إنسانية المجتمع الدولي، أين ذهبت وتركت الوضع المروع للغاية في غزة. ورغم استمرار فتح معبر رفح على استحياء لدخول المساعدات الإنسانية، لكن سياسات التجويع وإحكام الحصار على 2.3 مليون نسمة ما زالت تسير بخطوات ممنهجة وناجحة. 

شرايين حياة 

ما كان لسياسة التجويع التي تنتهجها إسرائيل في العدوان أن تنجح لولا تدمير الأنفاق بين مدينتي رفح المصرية والفلسطينية، والتي كانت ممرا بديلا لمعبر رفح وشريان حياة لسكان القطاع، ولعبت دورا حيويا في إفشال سياسة الحصار والتجويع ضد سكان غزة، منذ فرضت إسرائيل حصارا مطبقا على القطاع وأغلقت معبر رفح في يونيو/حزيران 2007 بسبب سيطرة حركة حماس على قطاع غزة وحتى منتصف سنة 2013.

وظلت أنفاق رفح ممرا لكل البضائع، من الأغذية، والأدوية، والأجهزة الكهربائية، والسيارات، والأسلحة، والوقود.

كل شيء تقريبا كان ينقل من مصر إلى غزة عبر الأنفاق. وبحلول 2011، كانت الأنفاق ممرا اقتصاديا لبضائع بقيمة 700 مليون دولار سنويا، بما في ذلك كل البضائع التي كانت إسرائيل تمنع دخولها القطاع حتى لا تستخدم في صناعة الأسلحة، منها 800 ألف لتر من الوقود، و500 طن من الحديد.

إسرائيل لم تهدم مدينة رفح الفلسطينية رغم تأكدها من استخدام الأنفاق في تهريب السلاح، فكيف يهدم الجيش المصري المدينة المصرية لنفس الحجة؟!

واستمرت الأنفاق في القيام بدورها كشرايين حياة لغزة طوال فترتي حكم المجلس العسكري والرئيس محمد مرسي.

ولكن بعد ساعات من الانقلاب على الرئيس مرسي، أغلق نظام الجنرال السيسي معبر رفح تماما أمام المسافرين والبضائع، وبدأ في تنفيذ خطة لهدم الأنفاق في رفح بحجة منع تهريب الأسلحة من غزة للمسلحين في سيناء.

لكن منظمة هيومن رايتس ووتش وثقت في تقرير بعنوان "ابحثوا عن وطن آخر، عمليات الإخلاء القسرية في رفح المصرية" خطة تدمير الأنفاق بين رفح المصرية والفلسطينية.

بدأ الجيش المصري تنفيذ الخطة في شهر يوليو/تموز سنة 2013، بتدمير مدينة رفح المصرية وهدم المباني والبيوت المحاذية للحدود المصرية مع قطاع غزة، وإنشاء "منطقة عازلة" بطول الحدود مع غزة، وبعمق 5-7 كيلومترات داخل سيناء وعلى مساحة 75 كيلومترا مربعا.

ورصدت المنظمة قيام الجيش بتجريف 1750 فدانا، هي كل الأراضي الزراعية في المنطقة، فحرمت العائلات من الطعام ومصدر الرزق، وجرد المنطقة الحدودية من أشجار الزيتون والنخيل وبساتين الموالح التقليدية فيها. وكذلك هدم 3225 من المباني السكنية والتجارية والإدارية بطول الحدود مع قطاع غزة.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

ووثقت قيامه بالإخلاء القسري وتشتيت 75 ألف مواطن بين بلدات سيناء وقراها والقاهرة والدلتا. وخلصت المنظمة إلى أن عمليات الهدم والتدمير كلها انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، وتشكل "جرائم حرب". 

الأنفاق بريئة 

فندت المنظمة الحقوقية ادعاء النظام استخدام الأنفاق في تهريب السلاح من غزة إلى سيناء كمبرر لمخطط إبادة مدينة رفح وضواحيها الزراعية ليس أكثر.

وقد أبدى مسؤولون إسرائيليون وأميركيون القلق بشأن تهريب الأسلحة من سيناء إلى غزة، وليس العكس. وقالت إن الهدف من إزالة رفح المصرية هو تعاون مصر في فرض حصار صارم على غزة.

واستشهدت بتصريح للجنرال السيسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 قال فيه: "لن نسمح لأحد بشن هجمات من أراضينا على الجيران أو على إسرائيل".

وقالت المنظمة في حملة سابقة ضد هدم إسرائيل بيوتا في رفح الفلسطينية بحجة وجود أنفاق، إن إسرائيل لم تهدم مدينة رفح الفلسطينية رغم تأكدها من استخدام الأنفاق في تهريب السلاح، فكيف يهدم الجيش المصري المدينة المصرية لنفس الحجة؟!

وأوردت المنظمة تصريحات لمسؤولين حكوميين، أجانب ومصريين، أشارت إلى ليبيا والسودان بصفتيهما المصدر الرئيس لما يصل إلى سيناء من سلاح، وقررت أن الأسلحة تُهرب من سيناء إلى غزة وليس العكس.

وأكدت على أن إغلاق الأنفاق يحقق فائدة عسكرية أكبر لإسرائيل، وأن الدمار الجماعي للأحياء في رفح المصرية تجاوز إلى حد بعيد حاجة الجيش المصري المعلنة لوقف التهريب عبر الأنفاق، وينتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يمنع هدم بيوت مدينة بأكملها لشبهة وجود أنفاق في بعضها، مع استحالة أن تستخدم كل الأنفاق في تهريب الأسلحة.

ما دخل من مساعدات إنسانية لا يمثل 2% من الاحتياجات، وما خرج من جرحى لا يزيد عن 425 مصابا، نصفهم تقريبا مرافقون طبيون

منذ بدء العدوان على غزة في السابع من أكتوبر، دأب الجنرال السيسي التأكيد على رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر، وخلال فعالية جماهيرية للتضامن مع الفلسطينيين في استاد القاهرة قبل أيام، كرر تأكيده على أن التهجير خط أحمر لم ولن يقبل أو يسمح به، وفق تعبيره.

لكنه في مقابل تلك التصريحات الرنانة، لم يتخذ أي خطوة نحو فتح معبر رفح، الذي يقع تحت الإدارة المصرية، أمام مساعدات حقيقية تدعم صمود سكان القطاع ضد مخططات التهجير الإسرائيلية التي يحذر منها، ويكتفي بإلقاء اللوم على الاحتلال الذي يرفض دخول المساعدات إلى القطاع، رغم أن إسرائيل ليس لها سلطة قانونية أو إدارية على المعبر.

ويكرر الجنرال السيسي أن معبر رفح لم يغلق أبدا، رغم أن ما دخل من مساعدات إنسانية لا يمثل 2% من الاحتياجات، وما خرج من جرحى لا يزيد عن 425 مصابا، نصفهم تقريبا مرافقون طبيون.

ذلك أن الواقع والتاريخ يؤكدان حقيقة أن النظام في مصر، منذ عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، دائما ما كان يشارك إسرائيل حصار قطاع غزة بإغلاق معبر رفح في كل مرة كانت تعتدي فيها دولة الاحتلال على القطاع، منذ حرب سنة 2008، ولكنه لم يقض تماما على أنفاق رفح، رغم الضغوط الأميركية، كما لم يفكر في هدم مدينة رفح بأكملها.

المرة الوحيدة التي خالف فيها النظام المصري إسرائيل، كانت في حرب نوفمبر/تشرين الثاني سنة 2012، حيث رفض الرئيس محمد مرسي إغلاق معبر رفح أثناء العدوان، وأمر بفتحه على مدار الساعة والسماح بعبور المساعدات الغذائية والطبية للقطاع، وفتح مستشفيات مدينة العريش المصرية لعلاج الجرحى الفلسطينيين بالتزامن مع القصف الإسرائيلي على القطاع، ولم يتذرع بموقف الجانب الإسرائيلي العدواني، وقال قولته الشهيرة، "لن نترك غزة وحدها".

ذلك أن اتفاقية جنيف الرابعة، المختصة بحماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، تفرض على مصر مسؤولية تمكين أهالي غزة من حقهم في العبور والسفر، والتزود بالغذاء والأدوية في وقت السلم والحرب.

موقف
التحديثات الحية

وتحظر الاتفاقية على مصر مشاركة أو مساعدة إسرائيل في انتهاك بنود المعاهدة، ومنها ارتكاب جريمة العقاب الجماعي، والحصار ومنع دخول الأغذية والأدوية.

وتقع على مصر أيضا، وفق المعاهدة، مسؤولية "منع" إسرائيل من انتهاك بنود المعاهدة بارتكاب تلك الجرائم، وهذا ما فعله الرئيس مرسي بشجاعة.

أما هدم الأنفاق فقد مكن إسرائيل بشكل جوهري من إطباق الحصار على غزة وتنفيذ مخطط التجويع، وربما يمكنها في الأيام القليلة القادمة من تنفيذ مخطط التهجير إلى سيناء الذي يدعي الجنرال السيسي أنه يرفضه.

وفي الحرب الحالية، قال المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك، إن "العقاب الجماعي" الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين، من تجويع وحصار وتهجير قسري للمدنيين، هو "جريمة حرب".

وبالتالي، وفق اتفاقية جنيف، فإن إغلاق النظام المصري معبر رفح يعد مشاركة لإسرائيل في انتهاك اتفاقية جنيف. 

المساهمون