الفقر مكلف جداً

الفقر مكلف جداً

09 مارس 2023
احتجاجات ضد سياسات الإفقار في باكستان (Getty)
+ الخط -

قلما تُجرى في الوطن العربي دراسات تقيس كلفة الفقر. ولكن هذا يحصل في بعض الدول الأغنى. واستشعار حدة الفقر وكُلَفه الباهظة يعرفها أهل المدن أكثر من أهل الريف، وذلك بسبب التكافل الاجتماعي الذي يظهره أهل الريف والبادية، حيث العلاقات الاجتماعية أقل رسمية وأكثر عفوية مما عليه الحال في المدن.

وفي كتاب صدر عام 2022 للأستاذ الدكتور الأردني مجد الدين خمش، والموسوم "سوسيولوجيا المدن في الحضارة العربية الإسلامية: طرق التجارة الصحراوية والعلاقات مع أوروبا"، تبرز هذه المعاني حتى ضمن الإطار التاريخي.

وبعدما بنى العرب والمسلمون مدناً حديثة مثل الكوفة والبصرة وسامراء، وبالطبع بغداد عاصمة العباسيين، نرى أن طبيعة العلاقات بين الناس قد تبدل حالها. ومن هنا بدأنا نرى في العصر العباسي الثاني مظاهر التحايل في طلب العيش وتأمين لقمته.

إذا أردنا أن نبحث عن كلف الفقر فدعونا نتأمل في مصادره، والسبب المهم يعود إلى ضعف القوة الشرائية للفقراء

وفي عصرنا الحالي، صارت وسائل الاتصال الإلكتروني طريقة حديثة للنصب واصطياد الأبرياء والإيقاع بهم في فخ الطمع والربح السريع. ونرى الكثير منهم قدم مبلغاً للمحتال لا يساوي إلا نسبة ضئيلة من المبلغ الذي كان يطمع في الحصول عليه بشكل سريع. ولذلك صارت شخصية كأبو الفتح السكندري، المعروفة في مقامات بديع الزمان الهمذاني، تجد لها آلاف الأشخاص الواقعيين المنسوخين عنها، والذين يستخدمون عالم الافتراض لاصطياد المال في الواقع.

ولكن إذا أردنا أن نبحث عن كلف الفقر فدعونا نتأمل في مصادره، والسبب المهم يعود إلى ضعف القوة الشرائية للفقراء. فهؤلاء لا يشكلون زبائن دائمين، بل زبائن مدينين على الأرجح، أو أن استهلاكهم كثيراً من السلع المكلفة قليل جداً مما يغري البائع بعرض النوعيات الأدنى عليهم بأسعار مرتفعة، أو أن يقبل إقراضهم بكلف مرتفعة.

ولإلقاء مزيد من الضوء، فإن معظم الفقراء المدقعين لا يملكون حساباً مصرفياً، ولا أي خط ائتمان لدى التجار. ومن هنا فإنهم مطالبون بدفع المال نقداً. والحصول على النقد مكلف وحتى وإن تمكن بعضهم من الحصول على بطاقة ائتمان ليشتري بها، فالأرجح أنه سوف يدفع فائدة على المبالغ غير المسددة ضعف أو أكثر مما يدفع الحاصل على قرض مصرفي مباشر.

وفي الوقت الذي تكون فيه الفوائد على القروض المباشرة في حدود 10%، فإن الفقير يدفع فوائد على المبالغ غير المسددة عن طريق الشراء ببطاقة الائتمان تتراوح بين 20 - 30%.

ومن ناحية أخرى، فإن الزبون الدائم يحصل على معاملة مميزة عبر بطاقات الاشتراك في شراء الخدمة أو السلعة من المتجر نفسه.

الفقراء لا يحصلون في العادة على مثل هذه البطاقات فيدفعون ثمناً أعلى لبضائعهم وخدماتهم مثل الطعام، والملابس

والفقراء لا يحصلون في العادة على مثل هذه البطاقات فيدفعون ثمناً أعلى لبضائعهم وخدماتهم مثل الطعام، والملابس، ويحصلون على خدمات أدنى في أماكن الحلاقة، والعلاج، وحتى المدارس، وإن كانت حكومية.

ولعل هذا يذكرنا بقصة المتنبي لما قصد في شبابه محلاً لبيع الفاكهة ليشتري خمس بطيخات منه، فأصر البائع على بيعها له بعشرة دراهم ولم يقبل منه الخمسة التي لم يملك غيرها آنذاك. وفوجئ المتنبي بتاجر ثري يمر من باب محل الفاكهة، فيلحقه البائع، ويصر عليه أن يبيعه البطيخات الخمس بدرهمين ويقوم بإيصالها لبيت التاجر. ولما سأل المتنبي بائع الفاكهة مستنكراً عليه فعلته قال البائع: "هذا التاجر يملك مائة ألف دينار".

وهذه الفكرة نفسها تكررت في أقصوصة للكاتب الأميركي الهزلي مارك توين، والتي وسمت "هل هو حي أم ميت؟" وحولتها هوليوود إلى فيلم سينمائي عام 1954 بعنوان "ورقة نقد بقيمة مليون جنيه".

موقف
التحديثات الحية

وتحكي القصة عن أخوين ثريين يعملان في سوق البورصة، ويطلبان من البنك المركزي البريطاني (بنك أوف إنجلند) أن يصدر لهما ورقة نقدية بقيمة مليون جنيه إسترليني لما كان الجنيه يساوي أربعة دولارات. ويعطي الأخوان هذه الورقة لرجل فقير. وكان يطرد من كل محل يدخله إلى أن يبرز ورقة النقد. فيأكل ويشتري الملابس ويقيم في أفخر الفنادق دون أن يدفع لأنه أهل للإقراض.

وأما سبب ارتفاع كلفة الفقر فيتجلى في ارتفاع كلف النقل على الفقراء الذين يسكنون في أحياء إما عشوائية لا تصلها الخدمات، أو أن تلك الخدمات غير منظمة كما هي الحال في كثير من الدول النامية. وإن توفرت فهي مزدحمة، ولا تخدم إلا الشباب الأقوياء، أما الفتيات، والأمهات، والشيوخ فاستخدام وسائل النقل يصبح رحلة عذاب وقلة قيمة. ومن هنا، فهم إما يمشون إلى أماكن العمل، أو أنهم يتجمعون ليستأجروا سيارة (pooling)، أو أن يدفعوا مبلغاً عالياً مقابل استخدام وسائل النقل الأغلى مثل التاكسي.

أما كلف العلاج والتعليم فهما وإن توفرا في الأحياء الفقيرة عن طريق القطاع العام، فإننا يجب أن نعترف أن هذه الخدمات في الأحياء الشعبية مكتظة بالمرضى

وكذلك ترتفع عليهم إيجارات المساكن في الأحياء المكتظة. ويضطر كثير منهم إلى المشاركة في الشقق مما يعني أن المبلغ الذي يدفعونه لا يحصلون بالمقابل منه إلا على سكن متدني المستوى ومشقة الحياة فيه عالية.

وأما كلف العلاج والتعليم فهما وإن توفرا في الأحياء الفقيرة عن طريق القطاع العام، فإننا يجب أن نعترف أن هذه الخدمات في الأحياء الشعبية مكتظة بالمرضى، ومستوى العاملين فيها إلا مَنْ كان منهم صاحب رسالة إنسانية لا يقدم الخدمة الطبية والتعليمية المناسبة. وترى الكثير منهم إن مرض ابنه أو ألمت بأي من أفراد الأسرة أزمة صحية اضطر إلى أخذ ابنه لمستشفى خاص، حيث يجب أن يدفع كلفة العلاج مقدماً. وإن قصر ابنه في التحصيل العلمي فيجب أن يستأجر أستاذاً لإعطاء ابنه دروساً خاصة تعوضه عن نقص مستوى التعليم في المدرسة العامة.

ويأتي كتاب الدكتور خمش عن سوسيولوجيا المدن مثيراً، وهو الذي أوحى إليّ أثناء ترؤسي مناقشة الكتاب بأن أكتب هذا المقال. ولا تقف الأمور عند هذا الحد، بل لا بد أن نتساءل عن مفهوم الازدواجية المجتمعية الناتجة عن كلفة الفقر، وعما يسببه من انقسام واضح في بنية المجتمعات، وخاصة العربية منها.

والأمثلة من الأردن ومصر والمغرب وغيرها من الدول العربية تؤكد مثلاً أن التعليم كان وسيلة للحراك الاجتماعي، والمساواة، وتقليل المسافة المالية بين الفقراء والأغنياء، وتعزيز مساحة الطبقة متوسطة الدخل والثروة. أما الآن، فقد خلق التعليم ازدواجية ثقافية وتكنولوجية سورُها مرتفع بين الفقراء والأغنياء، وتقلل من نسبة الطبقة المتوسطة في المجتمع.

فالأغنياء يتلقون تعليماً متميزاً، ويتقنون اللغات، ويعرفون في تكنولوجيا المعلومات، ويفهمون لغة البزنس العصرية، ويتعلمون في أفضل الجامعات، وأبناء الفقراء، إلا المبدعون منهم، لا ينالون هذه الفرص. ومن هنا، يزداد أبناء الأغنياء غنى، بينما ينتظر خريجو الجامعات العادية دورهم لسنوات للعمل في وظيفة ذات دخل محدود.

ولم تعد الحظوة التي يحصل عليها الأغنياء والأغنياء السوبر (The rich and the superrich) محصورة في حجم الدخل الذي يتأتى لهم، بل هو يتعدى ذلك ليمنح للأغنياء خدمات متميزة وسلعاً ذات نوعية عالية، وعلاجاً ذا مستوى راق يبقيهم أقوياء، واطلاعاً على التطورات في الحياة، وثقة في قدرتهم على التأثير في سياسات دولهم، وحظوة لدى المسؤولين في دولتهم ما يضفي على نوعية حياتهم الكثير.

نحن كأهل ديانات سماوية شرعت التكافل والتراحم والزكاة والوقف وحتى الخراج والمكوس لكي لا يكون المال دولة بين الأغنياء

أما الفقراء فهم هدف السياسات المالية العاجزة عن ردم العجز المزمن في الموازنات العامة للدول. ويجري تبني سياسات ترفع أسعار سلع الرفاه (السجائر والكحول، والسيارات الفارهة)، والتي يستهلك الفقراء منها الكثير وخاصة السجائر والكحول الرخيصة، وترفع الدعم عن الخبز والحليب ورسوم المساكن ما يجعل كلف الحياة عليهم باهظة جداً.

والفقر في وطننا العربي لم يعد مجرد حالة عابرة يمكن تجاوزها، بل صار حالة مزمنة، بديناميكيات تؤدي إلى زيادة الفقراء فقراً، والأغنياء غنى. وعلى المفكرين والسياسيين أن يضعوا سياسات تجعل الفقر أكثر احتمالاً وأقل كلفة، وتجعل الغنى الفائض قابلاً لإعادة التوزيع.

ونحن كأهل ديانات سماوية شرعت التكافل والتراحم والزكاة والوقف وحتى الخراج والمكوس لكي لا يكون المال دولة بين الأغنياء، وليكون المجتمع أقوى. أما الفقر فليس معه استقرار. ومن صالح الأغنياء أن يتراحموا مع الفقراء إما طوعاً، وإن لم يستجيبوا فمعنى هذا أن السياسات يجب أن تتطور.

وَلْنأخذ دروساً في هذا الأمر من نموذج "الرأسمالية الاجتماعية" المطبقة في الدول الاسكندنافية وحتى في دول مثل أستراليا ونيوزلندا.

المساهمون