الاقتصاد التركي يتفوق على دول العشرين....كيف حدث ذلك؟

الاقتصاد التركي يتفوق على دول العشرين....كيف حدث ذلك؟

21 ديسمبر 2020
حافظت الليرة التركية على سعر صرفها أمام الدولار رغم ضغوط الحظر
+ الخط -

رغم التحديات التي فرضها الإغلاق الأول في تركيا نتيجة لانتشار فيروس كورونا، استطاع الاقتصاد التركي استعادة نموه الإيجابي خلال الربع الثالث من العام الحالي، حيث حقق نسبة نمو 6.7%، متفوقا بذلك على كل اقتصاديات دول العشرين باستثناء الصين، وذلك بعد تحقيقه نمواً سلبياً بنحو 9.9% في الربع الثاني من 2020.

وأعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الاقتصاد التركي هو ثالث أقل اقتصاد تضررا من الوباء في العالم، وأن تركيا أفضل حالا من البلدان المتقدمة والنامية، حتى في ما يتعلق بالسلبيات مثل الزيادة الجزئية في عجز الموازنة، وتؤكد ذلك حقيقة ارتفاع مكانة تركيا 10 درجات مرة واحدة، واحتلالها المركز الـ 33 في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال التابع للبنك الدولي.

ويأتي هذا النمو الكبير في ظل أجواء من انخفاض مستمر لليرة التركية فقدت خلاله ما يزيد عن 30% من قيمتها منذ بداية العام، الأمر الذي أدى مؤخرا إلى تعيين محافظ جديد للبنك المركزي واستبدال وزير المالية، مع تغيير كبير في التوجهات الاقتصادية، لا سيما التوجه نحو الخفض المستمر لأسعار الفائدة.كما أنه من المتوقع استمرار هذا النمو الكبير للاقتصاد التركي ليس فقط خلال الربع الأخير من العام الحالي وإنما أيضا خلال العام القادم، وأكد معهد بروكينغز الأميركي للأبحاث أن الاقتصاد التركي سيتجه إلى تحقيق أرقام نمو مرتفعة في 2021 تصل إلى 4% وإلى 4.5% في عام 2022، وأن ينخفض معدل الفقر إلى 11% مع السيطرة على وباء كورونا.

استعادة وتيرة النمو الإيجابي للاقتصاد التركي، بعد صدمة الربع الثاني، طرحت التساؤل حول الأدوات والآليات والسياسات الاقتصادية التي استخدمتها الإدارة التركية للخروج من التداعيات السلبية لانتشار الفيروس بداية، والتي مكنتها بعد ذلك من استعادة زخم النمو المتواصل، والذي ظهرت بشائره مؤخراً. 

الحقيقة أن الإدارة التركية استخدمت كل الأدوات والسياسات الاقتصادية المتوافرة بشجاعة، وبما يفوق إمكاناتها المتاحة، لكي تقلل أضرار الإغلاق الأول اقتصادياً إلى أقل ما يمكن، علاوة على توجهها نحو سياسات تعمل على إعادة التنشيط الاقتصادي وتضمن استمرار دوران عجلة الإنتاج، ولم تنسَ في ذات الإطار دعم بعض الفئات المتضررة والمعوزة ومساندتها إنسانيا، وبما يضمن أيضاً استمرار حصتها الاستهلاكية الهامة في استيعاب الإنتاج المحلي بما يسهم في الحفاظ على فرص العمل.
واعتمدت تركيا على سياسة مالية مرنة وسريعة الاستجابة لإدارة الأزمة وإحداث التعافي في المرحلة السابقة وضمان استمراره في المستقبل، ومن بين تلك الإجراءات المالية السماح بتأجيل مدفوعات ضرائب القيمة المضافة ومستحقات الضمان الاجتماعي، وكلها تصب في دعم المستهلك النهائي. بالإضافة إلى عدم تطبيق ضريبة السكن حتى نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والسماح بتأجيل دفع رسوم الإشغال الفندقي، وخفض ضريبة القيمة المضافة على نشاط النقل الداخلي من 18% إلى 1%، لمدة 3 أشهر.

كما جاء الخفض المتوالي لمعدلات الفائدة على رأس السياسات النقدية التي استخدمتها الدولة، علاوة على تأجيل مدفوعات الديون للشركات المدينة والفوائد المستحقة عليها، وتوفير دعم نقدي للمصدرين.

وبالنسبة للعمل تقرر استمرار الدعم المقدم للحد الأدنى للأجور، وتوفير دعم نقدي إضافي بقيمة ملياري ليرة للأسر التي تعتمدها وزارة الأسرة والعمل، وزيادة الحد الأقصى لتعويضات العمل من شهرين، إلى أربعة أشهر، بهدف المساعدة على استمرار توفير فرص عمل. وكذلك توفير العديد من خيارات القروض الاجتماعية، بشروط مناسبة لعموم المواطنين.
ومن أهم العوامل التي حفزت عودة زخم النمو الاقتصادي المبادرات المصرفية للبنوك الحكومية، وفي مقدمتها حملة تمويل شراء العقارات بنسبة فائدة دون 1%.

هذه المبادرة دفعت مبيعات العقارات إلى تحقيق أرقام غير مسبوقة، حيث بلغ عدد العقارات المباعة في الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي 1.727 مليون عقار، ويمكن التأكيد أن هذه المبيعات الكبيرة كانت القاطرة الرئيسية للعودة إلى النمو الاقتصادي من جديد، بل وللتوقعات بديمومته خلال العامين القادمين، خاصة أن ما يزيد عن ثلث هذه العقارات بيعت للأجانب، وأن نشاط البناء والتشييد يجر خلفه ما يقارب 90 صناعة، كما يستوعب النسبة الكبرى من العمالة ذات المهارات المحدودة.
ويدعم هذه التوقعات المتفائلة للاقتصاد التركي أن المالية العامة في الأجل المتوسط حتى مع الزيادة الأخيرة في الاختلالات المالية، وفي ظل السيناريوهات المختلفة للاقتصاد الكلي، تؤكد أن البلاد يمكن أن تمتص المزيد من الصدمات المحدودة، حيث يمكن أن تلعب عوامل الاستقرار التلقائية والتدابير المستهدفة، وبفضل المساحة المالية الحالية، دورًا في حماية الاقتصاد من صدمة الوباء، حتى في ظل إغلاق جزئي متوقع مع مرحلة الانتشار الثانية.
يضاف إلى ذلك تراجع السياسة التركية تجاه سعر الفائدة، والذي اضطرت لرفعه إلى 15% مؤقتا، وأسهم في تحسن ملحوظ في سعر صرف الليرة، علاوة على دعمه لجذب ما يقارب 6 مليارات دولارات من خلال عمليات مبادلة الليرة بالدولار من مستثمرين أجانب خلال الفترة الماضية. ويمكن القول إن الميل الأخير للسياسة النقدية نحو التقييد سيعمل على تقليل اختلالات الاقتصاد الكلي وتآكل الهوامش الخارجية، بما يدعم من استقرار واستمرار ارتفاع معدل النمو.
عموما، يمكن القول إن الاقتصاد التركي بدأ يتعافى بعد بلوغه قاعا سلبيا، ورغم ذلك لا يزال يتعين على تركيا إجراء العديد من الإصلاحات الجوهرية لبعض البيانات الإيجابية التي يجب أن تنعكس في مؤشرات الاقتصاد الكلي.

وتأتي في مقدمة تلك الإصلاحات استقلالية البنك المركزي والمؤسسات الرقابية الأخرى، كما سيكون التحدي المقبل هو الاعتماد على الاستقرار طويل الأجل، والابتعاد عن المحفزات القصيرة الأجل المنبثقة من المحفزات الائتمانية للنمو الاقتصادي، وبما يدعم النظرة المستدامة للاستقرار الكلي.

أوافق الإدارة التركية في طرحها أن الاقتصاد اكتسب هيكلا أكثر مقاومة لمواطن الضعف، وأكثر استعدادا لمواجهة الأزمات، وذلك عقب العديد من الهجمات والصدمات التي تعرض لها، وأن تركيا تمكنت من التعاطي بشكل إيجابي مع تداعيات أزمة كورونا، وأوافق كذلك على أنها أصبحت بمثابة النجم الصاعد في منطقتها والعالم برمته في هذا السياق.

لكنه يجب الإشارة إلى أن هناك الكثير من الجهود التي يجب أن تبذل حتى تتحقق الاستدامة المرجوة، مع التحذير من تجاهل احتياجات الطبقات الفقيرة، والتي أضحت في حاجة ملحة لسياسات اقتصادية موجهة ومنتقاة.

المساهمون