أجور المدرسين المصريين في عصر السُخرَة

أجور المدرسين المصريين في عصر السُخرَة

01 أكتوبر 2021
طالبات مدرسة الأزهر الثانوية العليا في القاهرة (Getty)
+ الخط -

20 جنيهاً للحصة، أي نحو 1.25 دولار واحد، ولا أمل في التعيين. هكذا حددت الحكومة المصرية ووزارة التربية والتعليم الأجر الذي يتقاضاه المدرسون الجدد في المراحل الدراسية قبل الجامعية، بما أثار قضية مستقبل التعليم برمته في بلد تدعي حكومته أنها تريد تحقيق طفرة هائلة، تعيد بها الطلاب إلى المدارس وتسترجع معها البهجة والحياة إلى العملية التعليمية التي تدهورت بشدة خلال العقود الثلاثة الماضية.

يعلم وزير التربية والتعليم المدعوم من الأجهزة الأمنية السيادية في الدولة، الذين جاءوا به باعتباره المهدي المنتظر لقطاع تعرّض للتجريف الإنساني والفكري، أن العشرين جنيهاً لا يقبلها عامل في مكتبه أو خادم في بيته مقابل ساعة عمل.

فإذا عمل المدرس 5 حصص يومياً، وهو أمر يصعب تحقيقه، يعني أنه في أحسن الأحوال سيتحصل على 100 جنيه، ولن يجد قوت يومه في أيام العطلات والإجازات، وما أكثرها في مصر، بينما الأجير في مشروعات الطرق والكباري التي تتبارى الحكومة في تنفيذها في كل مكان لا تقل يوميته عن 200 جنيه، بينما العامل الفني صاحب الحرفة لا تقل يوميته عن 300 جنيه. تكشف هذه الأرقام الهزيلة، كيف وضعت الحكومة ذاتها المدرس في ذيل أولوياتها، بينما تدعي أن التعليم قضية أمن قومي.

بالنسبة للحكومة، الأمن القومي في وزارة الداخلية، وهو ما جعلها توفر لها أحدث السيارات والمعدات والأسلحة، والمكاتب المكيفة، والسجون الحديثة التي يفتخرون بإمكاناتها التكنولوجية والإدارية وخدماتها الفندقية. والأمن القومي في السكك الحديدية، دفع الحكومة لتدبير 250 مليار جنيه في 3 أعوام فقط من خلال الموازنة العامة أو الاقتراض من الخارج، بالإضافة إلى اقتراض 23 مليار دولار لمشروع القطار الكهربائي الجديد، ولن نقول السريع، لأن القطارات السريعة في العالم لها مواصفات ما زالت فوق أحلامنا بكثير.

والأمن القومي في الموازنة العامة فتح المجال أمام وزارة المالية للاقتراض على مصارعيه، لتزيد الديون نحو 120 مليار دولار خلال 7 سنوات، ولا ينفق منها إلا النزر اليسير على بناء المدارس والجامعات. طبيعي أن تكون محددات الأمن القومي ظاهرة أمام النظام بأكمله وليس الحكومة بمفردها التي لا تملك كثيراً من سلطاتها التنفيذية، بعد أن تنازلت عن كثير منها إلى رئاسة الجمهورية، بالمخالفة للدستور، وهو أمر خطير.

فالحكومة التي يجب أن تكون معبرة عن الكتل الحزبية والسياسية في البرلمان، بما يعني أنها تنظر لمصالح الشعب أولاً، وافقت منذ 5 سنوات على تعليمات لصندوق النقد الدولي تقضي بخفض عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

هذا الشرط، جعلها تعدل قوانين العمل والتوظيف، لتحقيق هذا الهدف، الذي يقف حائلاً دون تعيين المدرسين. تتذكرون المسابقة الكبيرة التي نظمتها وزارة التربية والتعليم منذ 4 سنوات لتعيين نحو 60 ألف مدرس، وتقدم لها نحو 1.2 مليون شاب، ثم أصبحوا في القائمة الصغيرة نحو 300 ألف.

فوجئ الشباب الفائزون في المسابقة، بعد مرورهم باختبارات، استغرقت عدة أشهر، وتحريات أمنية مطولة، بأنهم لن يعينوا على درجات وظيفية دائمة، بل بعقود عمل مؤقتة. اكتشف المدرسون أن العقود تمنحهم صرف الأجر طوال فترة الدراسة وتنتهي مع انتهاء العام الدراسي، وتحرمهم من أية مميزات في المكافآت السنوية والإجازات وغيره، وكأنهم عمال تراحيل.

بعد اعتراض الشباب على هذه المعاملة المهينة، لجأت الحكومة إلى طمأنتهم بصرف رواتبهم بانتظام من حسابات الصناديق الخاصة بالمحافظات، من دون تعيينهم أيضاً بصفة دائمة، وهو ما دفع بعضهم إلى الاستقالة أو الهروب إلى المدارس الخاصة التي تعاملهم بنفس الطريقة المهينة، عدا أنها تدفع لهم رواتب أعلى شهرياً.

أصبحت الحكومة تشغل المدرسين وفقاً لقانون العرض والطلب، فهي على دراية بأن ملايين الشباب لم يحصلوا على فرصة عمل رغم تخرجهم منذ سنوات، وهناك مليون ونيف يتخرجون سنوياً لا يستوعبهم سوق العمل، ولن تقدر الحكومة على تدبير فرص عمل مناسبة لهم في القطاع الخاص، وبالتأكيد لن يدخلوا دولاب العمل الحكومي وفقاً لتعليمات صندوق النقد إلا من يتمكن منهم من الالتحاق بالوزارات السيادية أو الأمنية أو الشركات المحتكرة للأعمال الكبرى في الدولة، وهم فئة أصبحت محدودة في المجتمع.

لذلك لم تتوقف فقط عن الأجر المتدني ولن نقول الزهيد الذي قررته للمدرس في الساعة، وإنما طلبت من الأهالي أن يساهموا في توفير المدرسين الذين يمكنهم العمل بدون مقابل!

يكشف هذا الطلب العجيب حجم القصور في تحديد الأولويات، فكيف نبني مدرسة بدون أن نضع قواعد لبناء المعلم، الذي أصبح أجره يقل عن عامل السخرة أثناء حفر قناة السويس حيث كان يقبض "تعريفة" يومياً، أي نصف القرش، لأن القرش كوحدة نقدية أفضل من 20 جنيهاً وفقاً للأسعار السائدة حالياً.

نعلم أن عمال السخرة والتراحيل أثناء حفر قناة السويس كانوا يعملون قسرياً تحت سوط الكرباج والتجنيد الإجباري، ولكن من سيعمل بالتدريس وفقاً لهذه الطريقة الأقرب إلى العبودية لن ينتج إلا أجيالاً مشوهة العقل والنفسية معاً. فالأجر بهذه الطريقة لن يكون إلا رخصة بالفساد، أسوة ما تفعله المحليات مع البلطجية الذين منحتهم تراخيص "السياس" ليجمعوا المال من أصحاب السيارات المتوقفة في الشوارع بالقوة.

لهذا لن تستطيع الحكومة ولا الأهالي مطالبة المدرس بالتفرغ لعمل لا يوفر له الحد الأدنى من تكاليف أعباء الحياة اليومية، فإن كان ذا حرفة أخرى، سيوجه طاقته إليها، وإن كان غير ذلك سيدفع التلاميذ دفعاً للدروس الخصوصية قسراً وجبراً.

هذا الأمر لم يعد غريباً، حتى في الريف الذي كان يخجل الناس فيه بعضهم من بعض، ويخشون أن يمارسوا الفساد مع ذويهم، فإذ بكثير من المدرسين الآن يأمرون التلاميذ بتعاطي الدروس الخصوصية، وهو أمر كان منذ عقود اختيارياً أمام الطلاب، ويحظى به كبار الأساتذة الأكفاء.

الملفت للنظر أن الحكومة لم تعد تبني المدارس الكافية للأجيال الجديدة، وهناك عجز يزيد عن 200 ألف فصل دراسي، في المحافظات، وكم دعت مراراً القطاع الخاص لإنشاء مدارس بنظام PPP، يسمح للقطاع بإنشاء المدارس وتشغليها لفترة زمنية تصل إلى 30 عاماً، ثم تسليمها للدولة.

فشلت الحكومة في تعميم هذا النظام، لأن تكلفة البناء وفقاً للمواصفات الرسمية باهظة وتكاليف التشغيل الشهرية عالية، وهي التي تحدد المصروفات، بل الأغرب أنها تجبر أصحاب المدارس الخاصة على الالتزام بشروط أفضل لمرتبات المدرسين والعاملين، لأنها لن تدفع، ولكن ستستفيد من الضرائب ومتحصلات التأمينات الاجتماعية، بما يدفعهم لمعاملة المدرسين بما تمارسه الحكومة. كما يمكنها أن تصادر تلك المدارس أو تضعها تحت وصايتها كاملة إذا ما ارتكبت أية مخالفة، وهي أمور أمنية بحتة، تخيف رجال الأعمال من الاستثمار في هذا النشاط.

وأمام الناس تجارب تأميم المدارس في الستينيات والإيجارات الإجبارية القديمة لبعضها بما يحمل ملاكها وورثتهم أعباء مالية ضخمة بدون عائد تماماً، كما وضعت الحكومة أيديها على مدارس خاصة بالمئات منذ 6 سنوات، تحولت إلى أوكار للفساد الإداري والمالي وفقاً لتقاريرها الرسمية، بعد أن كان بعضها نموذجاً تعليمياً يحتذى. الأمر الجيد أن قرار وزير التعليم المتعلق بمنح المدرس 20 جنيهاً عن كل حصة لاقى معارضة شديدة من طوائف الشعب، بينما الأمر السيئ أن الوزارة والحكومة تسدان أذناً بالطين وأخرى 

المساهمون