فتسوم براخي.. غير بحر الأغنيات

فتسوم براخي.. غير بحر الأغنيات

23 يوليو 2018
(فتسوم براخي)
+ الخط -

كثيرون غنّوا للبحر، تغزّلوا به وشبّهوه بالحبيب. أعلنت نجاة: "أنا بعشق البحر"، وصرّحت فيروز: "كبر البحر بحبّك". البحر غواية المحبّين، كما صوّرته الذاكرة الغنائية والسينمائية أيضاً، إذ لا يحلو لقاءُ العاشقَين (في السينما طبعاً) إلّا على شواطئه، وفي أوقاتٍ بعينها!

في الأغنيات، يظلّ البحر ساكناً، لا يُثير تقلّبُه وغدرُه قلقاً إلّا في ما ندر، كما في الأغنية التي كتبها ولحّنها الفنّان الجزائري محمد الباجي وأدّاها بوجمعة العنقيس بعنوان "يا بحر الطوفان": "يا بحر الغامق ماذا ادّيت رجال أو نسوان شابّات وشبّان" (أيّها البحر العميق، كم أخذت من رجالٍ ونساءٍ وشابّات وشبّان).

يُجازف كثيرون بحيواتهم في البحر، ويُكابدون مشقّة الهجرات عبر قوارب صغيرةٍ ومهترئة ومتأرجحةٍ بين اليأس والرجاء، رغم احتفاظهم بذاكرة قلقة وملتبسة تجاهه: "البحر غدار"، كما تُؤكّد العبارة التي تتكرّر في الخطاب الشعبي. لكن للضرورة أحكامها، وللبحر تعاويذه الأثيرة.

ورغم موجات الهجرة الكبيرة التي شهدها العالم، خصوصاً في السنوات الأخيرة، يظلّ البحر محتفظاً بصورته الرومانسية في الأغنية، دون أن يتحوّل إلى عنوانٍ لمآسي البشر.

لكن، وكما في أغنية الباجي، يبدو البحر مختلفاً في أغنيات المغنّي الإريتري فتسوم براخي (1984)، ذلك أنه يُغنّيه انطلاقاً من تجربةٍ شخصية مريرة. يقول: "لعلّ البحر أضحى عُقدتي بعد أن كان ملاذي نحو حياة أخرى. لذلك، لا أريد لذاكرته، وما تركته في نفسي من أثرٍ، أن تخبو".

يستعيد براخي تفاصيل تجربته مع البحر في رحلة سريّة طويلةٍ بدأت من الحدود البريّة بين إريتريا والسودان مروراً بليبيا، ووصولاً إلى عرض المتوسّط. كان أمل بلوغ الضفّة الأخرى ضئيلاً بالمقارنة مع هواجس الغرق، خصوصاً مع وصول خبر سيّئ قبل يومٍ واحدٍ من الرحلة الموعودة. يضيف في حديثه إلى "العربي الجديد": "كنّا مكدّسين في إحدى المزارع بليبيا حين بلغنا خبر غرق قاربٍ يحمل قرابة ثلاثمئة مهاجرٍ بالقرب من شواطئ جزيرة لامبيدوزا الإيطالية".

يتوقّف عن الحديث هنا، وهو يسترجع المشهد بتأثّر واضح: "كانت صدمة كبيرة؛ فأعداد الناجين لم تتجاوز العشرات، بينما تجاوزت أعداد الغرقى والمفقودين مئتَي ضحيّة، بينهم أصدقائي. يُفترض أن يثنينا ذلك عن الفكرة برمّتها. لكن، ولسبب ما، بدونا أكثر إصراراً، كأنما نريد اللحاق برفاقنا الذين خانهم البحر، أو الظفر بحياة جديدة. لم يكُن ثمّة خيارٌ ثالث".

تأجّلت رحلة الموت عن موعدها، فعاش براخي ورفاقه موتاً بطيئاً لأسابيع قضوها متنقّلين بين مزرعة وأخرى، متخفّين عن أعين الأمن من جهة، ومكابدين عناء التعامل مع مهرّبي البشر من جهة أخرى: "قضينا أسابيع عصيبة، بين الحزن على رفاقنا، وبين الاستعداد لمنازلة الموت في عرض البحر. كنّا نتعجل أقدارنا، لنُبطل شروط الموت البطيء بموتةٍ باسلة"، يواصل المغنّي سرد يوميات الرحلة التي انتهت إلى الشواطئ الإيطالية.

من إيطاليا انتقل براخي خفيةً إلى السويد حيثُ طلب فيها لجوءاً سياسياً، يقول: "الوصول إلى السويد كان بمثابة ميلاد ثالث، بعد أن نجونا بحياتنا أمام امتحانَي الموت عند الخروج من إريتريا، ثم قطع عرض البحر نحو إيطاليا".

ومن خلال الموسيقى، يعود براخي إلى ذاته والجراحات التي خلّفتها تجارب المسافة بين الموت والحياة، ولكن ليس الموسيقى بوصفها مهنةً يحترفها فحسب، بل كوسيلة أخرى لمواجهة "خراب الحياة وموت الذاكرة".

لا يزال مصرّاً على حضور "الأزرق" في كلّ أغنياته، حتى العاطفية منها، كما في أغنية "زيادة" التي يُخاطب فيها حبيبته بالقول: "سأنجب منك طفلاً، ونسمّيه بحراً، حتى لا تخبو الذاكرة". وفي أغنية أُخرى، يتساءل: "هل البحر رهاني أم خساراتي؟".

بقي البحر بصوره السالبة عنواناً لتجارب الفنّان الذي تُحقّق أغنياته نسبة مشاهدات غير مسبوقة في التجربة الغنائية الإريترية، خصوصاً لدى جيلها الذي وُلد مع فجر الاستقلال (1991)، فعاش خيبات الدولة الوطنية وحروبها العبثية.

ومرّة أخرى، يعود بأغنية "كفى" ليلفت فيها إلى الانتهاكات الجسيمة التي تلاحق المهاجرين السريّين، و"أسواق النخاسة" التي تُعقَد صفقاتها في وضح النهار على الأراضي الليبية: "كفى ابتزازاً البشر، كفى انتهاكاً لقيم الإنسانية... أيها العالم الأخرس كفى صمتاً".

المساهمون