مصادفة السيّاب في بيروت 2018

مصادفة السيّاب في بيروت 2018

23 ديسمبر 2018
(تمثال السيّاب على "شط العرب" في البصرة)
+ الخط -

أحدُ ألطف الكتبيّين في معرض بيروت للكتاب هذا العام، كان السوري صاحب مكتبة حلب. بين دور النشر المتنافسة بمطبوعاتها الجديدة، فإن جناح هذه المكتبة وحده الذي كان نجاحه قائماً على تقديم كلّ ما هو أقدم من الكتب والمجلّات.

جناح هذه المكتبة مكتظّ بعشرات العناوين بطبعات قديمة. وبعض هذه الكتب لم يحظ بطبعات جديدة، ليظل رهن طبعة قديمة قد تختفي من سوق الكتب، لكن الكتاب يظلّ في ذاكرة قرّاء ومتابعين ممّن قرأوه، وممن لم يتوفّروا على قراءته.

نجاح هذه المكتبة هو في حصولها على كلّ ما هو قديم، بينما القديم الأغنى هو كنز ثقافي لصاحب المكتبة ولحاجة القرّاء. تجد الكتب القديمة، بطبعاتها القديمة، فرصةً أخرى لها في دورة الحياة. يأتي بها الكتبي السوري، فتصادف من يجد في نفسه حاجة إليها، فيقتنيها.

سنوات الحصار العراقي، في جانب إيجابي منها، وهذه مفارقة، وفّرت لكثير من الكتب القديمة فرصة أن تتحرّر من رفوفٍ عالية في مكتبات كثير منّا، لتصادف في "بسطات الشارع" قرّاءً جدداً، ولتصادف معهم حياة أخرى. حياة أي كتاب تظلّ طاقةً كامنةً حتى يكون طوع قراءة جديدة، فتتحرّر معها تلك الطاقة من كمونها.

بقينا لدقائق نتحدّث مع الكتبي الحلبي عن كتبٍ مضاعة، وسلاسل لم تكتمل. كان الرجل حافظاً، مثلاً، لما صدر عن "عالم المعرفة" الكويتية، وبتسلسل دقيق لصدورها.

الشيء نفسه مع أعداد مجلّة "المورد" العراقية، وهي مجلّة عُنيت بالتراث ويُعتدّ بها، و"كتاب الهلال" في مصر، وسواها الكثير.

مع متعة الحديث، كنتُ أُواصل النظر والبحث في رفوف الكتب المعروضة في جناح المكتبة. لم أكن أبحث عن كتاب محدّد، ولستُ معنياً بجمع النوادر من الكتب والطبعات. لكن فجأةً وجدتُني مندفعاً نحو كتاب هو متوفّر في مكتبتي بأكثر من طبعة؛ هو ديوان بدر شاكر السيّاب "أنشودة المطر" بطبعته الأولى عام 1960، والصادر عن "منشورات مجلّة شعر" البيروتية.

هذا الديوان تَواجد في أسواق الكتب بطبعات كثيرة، ناهيك عن وجوده المركزي في "الأعمال الكاملة" للشاعر، لكن أحسب أن هذه الطبعة بورقها الأصفر الشاحب تظلّ هي الأشدّ أناقةً لديوان السيّاب البكر. إنه ديوان صنَع حداثة شعرنا العربي، وساعد حتى حداثة ثقافتنا ولغتنا.
سحبتُ الديوان من الرفِّ الذي كان فيه.

لم يُفكّر الكُتُبي الحلبي بعقلية الاحتكار التجاري، طلب ثمناً معقولاً بعد مجاولة طيّبة لأخذ الكتاب مجاناً.

دفعتُ الثمن مباشرةً، واقتنيته، فكان من أثمن ما ظفرت به من كتب المعرض.

لم يكن ممكناً ترك أبي غيلان منتظراً من يصحبه ويصحب أنشودة مطره في ذلك اليوم البيروتي الذي صادف أنه، هو أيضاً، كان ماطراً.

إنه كتاب آتٍ بطبعةٍ من نصف قرنٍ ليتنافس مع أحدث الإصدارات وأجمل الطبعات. وكان من مفارقات هذا الظهور مصادفته مع كانون الأول/ ديسمبر، الشهر الذي رحل فيه السيّاب بعد أربع سنوات على صدور الديوان، وكان رحيلاً بيوم ماطر، وكانت "أنشودة المطر" من بين مودّعي الشاعر إلى حيث تستقر روحه، في مقبرة الحسن البصري.

دلالات

المساهمون