عودة البسطار

عودة البسطار

18 يونيو 2017
كريم أبو شقرة / فلسطين
+ الخط -

منذ سنوات يدور صراع شرس بين قوتين غير متكافئتين ظاهرياً: "البسطار" أو "البوط" العسكري، و"الكلمة" وما تمثله في شموليتها من معانٍ ودلالات نبيلة. وقد دأبت هذه الأخيرة، عن خبرة أو قلة دراية، أن تلقي دائماً في أرض المعركة كل ما بحوزتها من بلاغة ومجازات، من دون أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

في هذه الأثناء، كانت مشاهد انتكاساتها تتعدّد، بين سقوط وترنّح ومحاولة للوقوف على القدمين مجدّداً، حتى إنّ البعض ارتأى، جزافاً أو يأساً أو إشفاقاً، أنه قد حان الأوان لكي تُعلن هزيمتها، وبالتالي انصياعها التام لطغيان "البوط" الذي يملك أبجديته الخاصة ويفرضها على العقول بعنجهية هوجاء.

والبسطار في القواميس هو جزمة الأكراد، حذاءٌ ثقيلٌ يلبسه العسكر، مداسٌ يلبسه أهل القرى، وهو أيضاً المرأة الملقلقة التي لا تقرّ في مكان. أوصاف صيغت بين أوساط الشعب وتلقّفتها معاجم اللغة لتشير بها إلى شيء محسوس أو مجرّد حتى لا تختلط علينا الأمور. ورغم منشأه الوضيع، من جلود حيوانات مختلفة، والبيئة التي يعيش فيها، بين التراب والطين والغبار، وجد في أزمان مختلفة من يرفع من شأنه ويُمجِّده لدرجة أنه بات مثار فخر لمن يعيش في ظلّه، أو تهديداً لمن يرفض الخنوع لسطوته.

البسطار، الذي استعيض عنه بالبوط العسكري لاحقاً، كان يُمثِّلُ منذ القدم رمزاً للسلطة وللهيمنة، وكان يختلف من حيث المنشأ ومكانة الشخص الذي ينتعله. جزمات ويلينغتون الخاصة بالضباط مثلاً، كانت لامعة كالمرآة، مجاز لسلطة ذكورية ماحقة، بينما جزمات بلوخر الخشنة كانت تشير إلى مستوى وضيع.

أما في الحكايات الخرافية، كما في حكاية "الجميلة النائمة في الغابة" لتشارلز بيرو، فنجد "الجزمة السحرية" التي تسمح لمن يلبسها بقطع مسافة سبعة فراسخ مع كل خطوة. مع ذلك، عقلة الإصبع، رغم ضآلة حجمه مقارنة بالغول، استطاع أن ينتزعهما من قدميه ويستخدمها بدهاء لإنقاذ إخوته.

والحال، نرى "الفعل"، كما هو وارد في قواعد النحو وعلى أرض الواقع، ما زال يلتزم بموقعه ولا يتزحزح قيد أنملة عنه، انصياعاً لقوانين ومعايير لا يمكن تجاوزها بسهولة، وإذا ما انتُهكت، فسرعان ما ستنكشف نحوياً و"ميدانياً". تحالف مأزوم ومتنافر، إلا أن المسمّيات القسرية - مع ما تحمل من تزييف فاضح - تدفع لجهة ترويضه، أو تقديمه بنسخة لا تمت إلى أصله الوضيع.

ولكن أحقّاً، في زمن الحرب، تعامُلنا مع الكلمة، كندّ للبسطار، يجب أن يختلف عما هو عليه في زمن السلم؟ أي، بعد أن وجدنا أن الكلمة فقدت تأثيرها تقريباً على العقول وعلى القلوب، كيف يمكننا مواجهة البوط العسكري بالكلمة، خاصة عندما نلمس عن قرب، هذا إذا لم نجرّبه على جلودنا، أن هذا الحذاء الجلدي المتين (البوط البلجيكي الشهير) لا يتعامل بالمنطق، وتهوّره يمكن أن يودي بالأرض وبالإنسان معاً؟


* كاتب سوري مقيم في إيطاليا

المساهمون