"ألوان العار": جدارية البؤس وفلاسفتها

"ألوان العار": جدارية البؤس وفلاسفتها

30 ابريل 2017
(ألبير قصيري في فندق "لا لويزيان" في باريس)
+ الخط -

بقيت مدة خمسة عشر عاماً من الانقطاع عن الكتابة الروائية في حياة المصري ألبير قصيري (1913- 2008) محطّ اهتمام وبحث لدارسي حياة الكاتب الذي قضى معظم حياته في فندق "لا لويزيان" الباريسي حتى رحيله. فترة الصمت الروائي استمرت حتى عام 1999 مع صدور عمله الروائي "ألوان العار"، الذي نشرت طبعته الثانية مؤخراً عن "دار كنعان" بترجمة السوري سعيد محمود. هكذا جاء صدور "ألوان العار" ليعطي صورة مكثفة وحية عن الأجواء والمناخات التي شغلت ذهن قصيري في تلك الفترة، وعن طبيعة الأسئلة التي رافقته خلالها.

صحيح أن الروائي في عمله المذكور يستمرّ بتقديم الشخصية القصيرية التي احترف تقديمها في "شحاذون ومعتزون" و"كسالى في الوادي الخصيب" و"منزل الموت الأكيد"... وغيرها، إلى أن صارت تمتلك معالم شبه واضحة: فيلسوف ينتمي إلى القاع، فقراء وعاطلين عن العمل، خدم… إلخ، إلا أنها تبدو في "ألوان العار" أكثر حكمة وأكثر إدراكاً ووعياً لسبب مأساتها.

منذ اللحظة الأولى يضع قصيري قارئه وسط زحام القاهرة جاعلاً إياه يتأمل جدارية ينخر البؤس تفاصيلها تحت شمس جهنمية واصفاً شخوصها بـ"رابطي جأش متسامحين مع عدو غير مرئي يهدم أساسات عاصمة كانت مزدهرة فيما مضى، عاصمة تحوّلت إلى مملكة نمل". لكن على الرغم من قتامة الجدارية إلا أن قصيري يلتقط وهو ينقل رائحة الأوساخ وانفجار المجاري وأسراب الذباب قدرة الناس على المرح والسخرية والحكمة أيضاً ضمن كل هذا البؤس.

أسامة لص فيلسوف، أنيق المظهر للتخفيف من مخاطر مهنته، في الثالثة والعشرين من العمر، يقوم باصطياد الزبائن الأغنياء سارقاً محافظهم التي تحتوي على الفتات مقارنة بما يراكمونه في البنوك، يقع في أحد الأيام على محفظة متعهد بناء فاسد تحتوي وثيقة تثبت تورطه مع مسؤولين حكوميين في صفقة فساد أودت بحياة ثلاثين شخصاً في سقوط مبنى سكني. 

يخبر نمر، أستاذه في اللصوصية الخارج من السجن للتو، بأمر الوثيقة فيتفقان بعدها على استشارة كرم الله (أحد الصحافيين الذين التقاهم نمر في السجن وكان قد دخله بسبب مقال). فعلاً، يذهبان إلى حيث يعيش الصحافي في المقبرة ويطلبان مشورته في ما يمكنهم فعله. هكذا إلى أن يقرر الثلاثة استقدام المتعهد الفاسد إلى مقهى شعبي لا لمصلحة معينة بل لأسباب تتعلق بفضولهم في مجالسة اللصوص الحقيقيين والرغبة في إذلالهم، ذلك كلّه في فصل أخير وكأنه محاكمة لصناع العار ومتعهديه المحليون والعالميون.

يتمكن قصيري في "ألوان العار" من أن يعزل قارئه معه ومع فلاسفته وسط زحام القاهرة لتأمل مملكة من البؤس أمام حكمة بشر "لا يستطيع أي مصير ظالم أن يحرمهم من الثرثرة والمرح" على حد تعبير قصيري. نراهم في عمل قصيري بشر يعبرون عن حقدهم بالسخرية المرّة تارة والضحك ومواصلة الحياة تارة أخرى، ضمن زمن يتكاثر فيه الأوغاد وفي واقع يكذب كل من يقول بعدم قدرته على الاستمرار في الفوضى والبلبلة والهباء، بحسب اللص الفيلسوف.

المساهمون