"الحصار": هامش أميركي ضيّق لأصحاب القضية

"الحصار": هامش أميركي ضيّق لأصحاب القضية

09 نوفمبر 2017
(مشهد من المسرحية)
+ الخط -

استضاف "مسرح سكيربال"، التابع لجامعة نيويورك، على خشبته، خلال الشهر المنقضي، وعلى مدار عشرة أيام عروض مسرحية "الحصار" الفلسطينية. وليس هذا بأمر عادي. فأبواب مسارح مدينة نيويورك، أهم مدينة أميركية ثقافياً واقتصادياً، لا تفتح عادة بسهولة أمام أعمال تحاول ولو بشكل جزئي تقديم وجه إنساني للقضية الفلسطينية.

ويحدث ذلك بطرق شتى، من بينها الضغوطات الشديدة التي تتعرّض لها أي جهة تحاول عرض عمل يتعامل مع القضية الفلسطينية بكل تعقيداتها. قد يبدو الأمر مبالغاً فيه إذا ما افترضنا أن حرية التعبير في الولايات المتحدة أمر مكفول للجميع؛ إلا أن الواقع والتحديات المختلفة تفرض نفسها وبقوة على أبناء وبنات الجاليات العربية عامة، والفلسطينية على وجه التحديد، إن أرادوا أن تحتضن مسارح مدنهم الأميركية قضايا تمثلهم وتمثل جزءاً من خلفياتهم وتاريخ أهلهم وبالتالي تاريخهم. ولا شك في أن المسرح والفنون والأدب والموسيقى والسينما ليست مجالات تسلية فحسب، فهي كلها تساعد على بلورة وتشكيل الرأي العام الأميركي عامة، والنخبة السياسية والثقافية.

أتى عرض مسرحية "الحصار" بعد سجال عنيف قادته حركات يمينية ضد عرضها، مما أدى إلى تراجع مسرح آخر قبل عام عن العرض، بعدما كان قد تأجل سنة قبل ذلك. وتكمن الإشكالية، بالنسبة للحركات اليمينية المعادية للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة، في أن المسرحية تضع المقاتلين الفلسطينيين ضد الاحتلال في مركزها وتحاول التعامل مع معاناتهم الإنسانية وظروفهم التاريخية التي تكون المحور الرئيسي للحديث عن الأسباب التي تؤدي بشخص ما لاتخاذ قرارته بهذا الاتجاه أو ذاك.

مسرحية "الحصار"، من إنتاج "مسرح الحرية" في مخيم جنين وإخراج الفلسطيني نبيل الراعي، والبريطانية زولا لافرتي. وأحداثها مستوحاة من قضية حصار كنيسة المهد الفلسطينية في مدينة بيت لحم عام 2002، الذي فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلي بعدما التجأ 39 مقاتلاً فلسطينياً إليها، بسبب ملاحقتها لهم وحصارها لبقية المدينة مما اضطرهم للجوء لكنيسة المهد. واستمر الحصار أربعين يوماً، وكان داخل الكنيسة، بالإضافة إلى المقاتلين، مئتان من المدنيين.

وانتهى الحصار، بعد استشهاد عدة مقاتلين، بنفي البقية إلى مناطق عدة من بينها قطاع غزة ودول أوروبية كأيرلندا وإيطاليا ودول أخرى دون السماح بعودتهم حتى اليوم، على الرغم من أن إبعادهم كان من المفترض أن يكون لسنتين فقط. وكتب المخرجان المسرحية بعد عشرات المقابلات التي قاما بها مع عدد كبير من المقاتلين في المنفى.

واستوحيا من تلك المقابلات روايات ست شخصيات تحاول تجسيد ما حدث. وعلى الرغم من المحاولات الجدية، التي يقوم بها المخرجان للتعامل مع الموضوع بكل تعقيداته وبعده الفردي والشعبي، كما الحفاظ على مستوى فني جيد، إلا أن المباشراتية وبعض الشعاراتية في التناول خففت من تأثيره أو حتى عمقه.

قد يبدو المنع والتشديد على المسرح بشكل خاص، في ما يتعلق بأعمال فنية متعلقة بالقضية الفلسطينية، مستغرباً لكن السوابق كثيرة، على الرغم من وجود الاستثناءات. واحد من أبرز الأمثلة كان أوبرا "موت كلينغهوفر" والتي عُرضت في دار أوبرا المتروبوليتان العريقة في نيويورك. وأثار عرضها موجة عارمة من الاحتجاجات وتهديدات بسحب التبرّعات، من واحد من أهم دور الأوبرا في الولايات المتحدة والعالم، مما اضطر القائمين على العمل - وهم أميركان لا جذور فلسطينية لهم - إلى تعديل بعض المشاهد.

وتدور أحداثها حول حدث تاريخي وهو خطف فدائيين فلسطينيين لباخرة "أكيلي لاورو" الإيطالية عام 1985. وعلى الرغم من أنها تعتمد على واقعة تاريخية دون أن تكون عملاً تاريخياً بحد ذاتها، لكن الاعتراضات جاءت لأن الأوبرا تستخدم تلك الواقعة التاريخية في جدل حول العنف، دون تقييمه بالمعنى المطلق، وحول الخيارات التي يتخذها البشر والظروف المحيطة بتلك الخيارات.

الأمر المثير أن تلك الضغوطات تكون حادة عندما يتعلق الأمر بالمسرح والأوبرا بشكل خاص. ويرى بعض المختصين في هذا المجال أن الأمر يعود للدور الذي يلعبه المسرح في الولايات المتحدة، وكونه فنّاً يجسد الشخصيات "بلحمها ودمها"، مما يجعلها ملموسة وقريبة من المشاهد الأميركي.

ولا شك في أن المسرح مقارنة بأدوات فنية أخرى يخلق جواً حميمياً وإنسانياً مع الجمهور. وتتناول تلك المسرحيات غالباً مواضيع شائكة كالذاكرة والهوية الفلسطينية والرؤية البديلة عن تلك السائدة في الرواية الأميركية والإسرائيلية الرسمية، مما يعطي رواية المستعمَرين ولو لساعة أو ساعتين حيزاً رئيسياً مقارنة بذلك الحيز الهامشي. كما أن جمهور المسرح أو الأوبرا، عادة، من الطبقات المؤثرة والفاعلة في الولايات المتحدة مما يجعل الوصول إليها في العادة صعباً لكنه عن طريق المسرح يكون ممكناً ومباشراً.

إضافة إلى موضوع فلسطين، فقد يلقى كتّاب، من أصول عراقية أو أفغانية، يكتبون بشكل نقدي عن احتلال الولايات المتحدة لبلادهم صعوبات كذلك عند محاولة عرض أعمالهم على المسارح الأميركية، إذا كتبت تلك الأعمال فقط من وجهة نظر الضحايا.

وعلى الرغم من تناول العديد من الأفلام الأميركية قضية احتلال الولايات المتحدة للعراق أو أفغانستان؛ إلا أن تلك الأفلام تتناول في الغالب الموضوع من وجهة نظر تحرص بطريقة ما على أنسنة الجندي الأميركي بالدرجة الأولى.

يعد المسرح عامة من الشرايين الرئيسية للمشهد الثقافي في مدينة نيويورك. وعلى الرغم من وجود عدد لا بأس به من أبناء الجاليات العربية والمسلمة، الذين يعيشون هنا وينتجون أعمالاً أدبية وفنية مميزة تتناول قضايا متعلقة بـ "الشرق الأوسط" والحروب الأميركية، فقلما نرى مسرحاً في نيويورك يستضيف عملاً فنياً مقتبساً عن أعمالهم.

وإن عرض عمل يتناول قضايا كالعراق أو أفغانستان أو فلسطين والدور الأميركي في سوء حال تلك البلاد، فإنها غالباً ما تكون أعمالاً مقتبسة عن كتاب أميركان أو حتى جنود شاركوا في حروب بلادهم، فيصبح الجلاد هو المركز وتأنيب ضميره هو الأساس بدل التركيز على الضحايا.

دلالات

المساهمون