كيف تكتب قصائد شوهدتْ من قبل؟

كيف تكتب قصائد شوهدتْ من قبل؟

29 يوليو 2016
نذير طنبولي / مصر
+ الخط -

من حين إلى آخر، تعيد بعض إصدارات الشعر في منطقتنا نمطاً شائعاً من الكتابة إلى الواجهة. نمطٌ سرعان ما نتذكر معرفتنا به، كقرّاء، رغم أنه لا ينفكّ يعود، كلّ مرة، تحت اسم وشكل مختلفين.

تصطف، بفضل أسلوب الكتابة هذا، دواوين مختلفة، تحمل تواقيع شعراء مختلفين، وصادرة في أمكنة وأزمنة مختلفة، في مستوى واحد. بل تكاد تتكاتف لتشكّل كتاباً واحداً، أو، بالأحرى، قصيدة واحدة. ذلك أن هذه الأعمال تفهم الشعر بالطريقة ذاتها، وتكتبه، أو تريد كتابته، بالأسلوب نفسه.

يمكن لمجموعة عماد الدين موسى (سورية، 1981)، "أن تتعطّر بقليل من البارود"، الصادرة أخيراً عن "دار مخطوطات" (هولندا)، أن تساعد على دخول أجواء هذا النمط الكتابي. ذلك أنها تنتمي، وتصرّ على أن تنتمي، إلى هذا النمط الشائع من الكتابة، من خلال انبنائها كاملاً في طريقة كتابته للشعر وفي فهمه إياه.

تطمح قصيدة موسى إلى أن تقول شيئاً ما بأقلّ مجهود ممكن. كلمات قليلة تكفي، أحياناً، لتشكيل النصّ الذي غالباً ما يقوم على مقولة مفردة، جملة كانت أو "لقطة". اشتغالٌ يمكن فهمه بوصفه سعياً إلى التكثيف، شكليّاً على الأقل. وهي فرضية تعزّزها لمَحات الحذف والتقديم والتأخير التي يقوم بها موسى هنا وهناك. غير أن قراءة الكتاب وإعادة قراءته لا تساعداننا على الاعتقاد مطوّلاً بهذه الفرضية. ففي الغالب، تقوم القصيدة، رغم قصَرها النسبيّ، على التكرار والتدوير اللذين يتنافيان مع التكثيف. إذ لا يكتفي الكاتب بتدوين مقولته أو "لقطته" والانتقال إلى أخرى مختلفة، أو ببناء نصّ من لقطات متعدّدة؛ بل ينشغل، في كثير من نصوصه، في الوقوف عند الفكرة ذاتها، في إعادة صياغتها وتدويرها مرّة واثنتين وثلاثاً وستّاً، وكأننا إزاء نضوب ما. هذا التكرار، الذي يؤمّن إطاراً محبّذاً لموسى كما يبدو، يُدخل قصائد هذا الأخير في حيّز التعداد حيناً، والنظم حيناً آخرَ. هكذا، لا تنفكّ كل قصيدة تنتهي مع بدايتها، أي مع السطر الأول الذي يكشف، في كل مرة، قواعد اللعبة نفسها. يربح النظم، في هذا، ويخسر الشعر.

لنقرأ، مثلاً، 1) "الغابُة لا تطرد الأشجار/ الأشجار لا تجلد العصافير/ العصافير لا تخنق الريح من غنائها../ وأنا/ ليس لي أنْ أحبس أنفاسي"، وأيضاً: 2) "الحرية ليست طائراً، أيها الصياد/ الحرية ليست كرسياً، أيها السيد/ الحرية ليست زهرةً، أيها العاشق/ الحرية ليست كأساً، أيها السكّير/ الحرية ليست حذاءً، أيها الحمقى/ الحرية عطر... لكن حاسة الشم ككل الحواس الأخرى/ باتت معطّلة"، وكذلك: 3) "تستطيع أن تتعطّر بقليل من البارود/ قبل أن تذهب إلى موعدك، تستطيع أن تهدي لمن تحب/ بضع رصاصات طائشة، تستطيع أن تقول: "الحب رداءٌ، وها أنا أرتديه كما ينبغي""، أو حتى: 4) "كم عاشقًا يقف على الناصية؟/ كم طائرًا يُبعثُ تحت شرفتك الوحيدة في عشقك؟/ كم أنشودة في الصباح؟/ كم في المساء؟/ وكم أمنية بائسة؟"

يمكن أن يلاحظ القارئ أن كل واحدٍ من هذه المقاطع يقوم، بطريقة أو بأخرى، على التكرار. تكرار في بنية الجملة كاملةً حيناً، أو في الغزل على فعل واحد، أو في جمع "التقنيّتين" معاً. أما بعض نهايات المقاطع، التي تبدو لوهلة متخلّصة من التكرار، فإنها محكومة، في الواقع، بتكرار من نوع آخر، قلّما تتفلّت منه؛ فبعد التعدادات المتوالية، المرتبطة بـ"الطبيعة" وبالآخرين، إما أن يلتفت الكاتب إلى نفسه، ليعدّها في نهاية المقطع مع ما يعدّ، أو أنه يعبّر عن ذاته من خلال قفل النصّ بتعريفٍ أو حكمةٍ ما متعلقة بالتعداد الذي يتناوله، وتقدّم وجهة نظره الشخصية حول ثيمة النص، كما في"الحرية عطرٌ... لكنّ"، مثالاً لا حصراً.

إن المعضلة في الاقتباسات أعلاه لا تقتصر على الشكل فحسب، بل تتجاوز حيّز "التقنية الشعرية" إلى حيّز الشعرية نفسه. فالمقترح الشعري في الأمثلة السابقة هامشيّ جداً. وهو يقع ضحية العاديّة حيناً، وانعدام المعنى حيناً آخر. إن ترديد عبارات مثل "الحرية ليست طائراً، أيها الصياد"، "الحرية ليست كأساً، أيها السكير"، "الحرية عطر"، "الحب رداء، وها أنا أرتديه"، إلخ، يضعنا في أجواء نظم وإنشاء مبتذلَيْن أكثر منه في حضرة شعر قادر على الإدهاش.

في الواقع، ثمة قوالب لا تنفكّ نصوص المجموعة عن أن تكون رهينةً لها. كأن القصيدة لا تنولد إلا في هذه النماذج التي تحدّد لها مسبقاً ما يجب وما يمكن أن تكونه، شكلاً ومضموناً. هذه القوالب، التي تفرض نمطاً معيّناً من الكتابة، والشائعة بشكل مفرط في جزء كبير مما يُنشر اليوم في منطقتنا، تجعل من نصوص العشرات من الشعراء، على اختلاف أسمائهم، نصّاً واحداً بلا حيوية ولا خصوصية تذكران. إن عبارة مثل "قبل مجيئك بقبلة أو أقلّ"، تذكرنا بعبارات مشابهة كثيرة، يشترك كتّابها في الإيمان بأن هذا الاشتغال شعريٌّ بالضرورة.

أما المقطع: "الجميلات بأردافهن العالية كالنجوم/ الجميلات عليلات جمالهن/ الجميلات بغنائهن الذي كمدية/ الجميلات فاكهة الشتاءات الطويلة/ الجميلات وهن يغادرن قلبك - الواحدة تلو الأخرى- دونما عدد" فيذكّر القارئ بقصيدة لشاعر فلسطيني معروف ومحبوب جماهيرياً.

على نحو مدهش وجريء فعلاً، لا يكفّ عماد الدين موسى عن ملء صفحات ديوانه بجمل كهذه. حتى ليبدو الكتاب، الخارج توّاً من عند الناشر، مألوفاً لنا بأكمله، وكأننا قد قرأناه عدّة مرّات سابقاً. عملٌ لا يخرج أبداً عن طاعة تلك القصيدة الشائعة، التي تقوم، بوعي أو بلا وعي، على تجميع قوالب وأدوات وعبارات باتت، كما يبدو، غاية هذا الشعر وممكنه. يعني ذلك أن ما يفترض أن يكون ثانوياً في القصيدة، كبعض التقنيات والقوالب الشكلية، يصبح قلبها ومحرّكها الأول، على حساب الشعرية التي يقتلها النظم والقولبة، والتي تغيب بالضرورة في حضورهما.

في توصيف هذا النمط من الكتابة، يمكننا، مثلاً، الحديث عن كاف التشبيه، التي يكفي حضورها، كما يبدو، ليتحوّل مقطع لغوي إلى شعر؛ شعر ينتمي إلى تلك القصيدة الشائعة، بالطبع. نقرأ في كتاب موسى، 1) "تتمدد الأيام تحت سريري/ كأفاع أليفة../ تتكاثر كالنمل/ وكالعشب تختفي". 2) "كجندي منشق للتو/ وبفردة حذاء واحدة../ أظلّ ُأحب"، وكذلك: 3) "الحب الذي اشتعل/ كحريق صيفي/ في بيدر حياتي"، وأيضاً: 4) "حياتي التي/ ملقاة/ ككسرة خبز/ على قارعة الطريق."، و 5) "كطائر لا عشّ له/ أو كأنشودة خرساء/ بعين واحدة/ أو دون قلب".

كما يمكننا الحديث عن النداء والأمر المتكررين، اللذين يحدّدان، مع الكاف والتكرار و"أدوات" أخرى، هذه الكتابة. "أيها الجندي/ أيها الجندي../ وأنت تخرج/ ارتدي [ارتدِ] نظّاراتك السوداء/ كي تتشبه بالأزل"، أو «أيها الطفل النائم لتوّه/ كن سعيداً كما ينبغي/ كما ينبغي/ لا تدع ابتسامتك الساحرة/ تنطفئ باكراً/ كما لو هتاف/ كن طفلاً/ كما ينبغي". إن هذين الاقتباسين، مضافين إلى الاقتباسات التي سبقتهما، لا يذكّران بشعر محمد الماغوط ورياض صالح الحسين ومن تبعهما، فحسب، بل يطرحان سؤالاً جدياً عن حضور صاحب المجموعة في ما يكتب. "فالشاعر غائب عن نصه الذي يتكفّل شعراء آخرون، وقراءاته لهم، بكتابته". إنه عاشقٌ لهذا النمط من الشعر إلى درجة امّحائه تماماً، كفرد ذي تجربة مختلفة بالضرورة، مما يكتبه.

أما بناء مقاطع كاملة على الاسمين الموصولين، "الذي" و"التي"، فهو يبدو من أكثر تقنيات هذا الشعر تفضيلاً لدى شعرائه. إذ يكفي إلحاق اسم ما، باسم موصول، وإتباعهما بعدد من الكلمات، ليصبح هذا المزيج اللغوي قصيدةً.

لنقرأ، 1) "الحياة/ التي/ ككرة ثلج/ تنتظر بشغف لحظة زوالها". و2) "الوردُة/ التي/ أبت أن تذبل/ إلا في انتظارك"، وكذلك، 3) "النجوم التي تصغي، بصمت، إلى ألم بريقها/ تكتفي بإشارة من إصبع القمر الخفي/ القمر/ الذي/ مايسترو"، إضافة إلى 4) "الشهيدة التي سأترك جسدها/ ككلّ الأشياء/ للتراب البارد. الجسد الصغير/ الذي/ طالما تحبه/ وأحبه أنا أيضاً./ الحب الذي اشتعل/ كحريق صيفي/ في بيدر حياتي./ حياتي التي/ ملقاة/ ككسرة خبز/ على قارعة الطريق./ الطريق/ التي/ لا تؤدي/ إلى أي مكان/ أوجهة./ الجهة الوحيدة/ التي/ ما من سبابة أو بوصلة/ تشير إليها".

إن هذه القصيدة الأخيرة، رقم 4، لمثالٌ معبّر عن القصيدة الجماعية التي نتحدث عنها، والتي تنتمي إليها نصوص هذه المجموعة بامتياز. قصيدة لا تكتفي باجترار الشائع والمكرور الشعريّ في المنطقة، بل تجترّ نفسها داخلياً أيضاً، من خلال إذعانها كاملاً إلى التقليد من جهة، والنظم من جهة أخرى.

إن المشكلة في شعر كهذا لا تقتصر، مرة أخرى، على الشكل والتقنية. فالقصيدة، ككلّ، تعاني من مشكلة قول جديدٍ أو تقديم خصوصيّة ما. والشعر، ككلّ الفنون، لا يستحقّ اسمه إن لم يخرج عن المألوف، أو إن لم يقل المألوف بطريقة أخرى. غير أن كتاب موسى يستحيل، في غالبه، إعادةً لما قيل وما يُقال. باستثناء عبارات قليلة جداً، مثل "الطائر يغرّد بعينه"، يبقى الكتاب حبيس مفاهيم وتصاوير شديدة الشيوع والابتذال، مثل "مدية الحنين إليك"، "أزاهير الحقل باهتة اللون دون واحدة من نظراتك".

ربما ثمة انفعال عاطفي في بعض النصوص التي يقترحها هذا الشعر، إلا أنه انفعال ينولد حسب كاتالوغ مسبق، ليملأ قالباً ما، معدّاً سلفاً. وهذا حال مصنع ينتج، على هيكل واحد، سيارات مختلفة اللون، لكنها جميعاً بالمقاسات والموصفات نفسها. إن وجود القالب ومحددّاته يسبق وجود الانفعال الشعريّ ويمنحه شكله وأحياناً مضمونَه. كأننا حيال ولادة قيصرية للشعر، ولادة مستعجلة ولا ضرورية ربما.

من صفات شعر كهذا أنه فاقد للحيوية، وذو معجم شديد الضآلة. إنه ثابت في مكانه، يتغذى على ما يعرفه وما يحيط به. لا يخرج من إطاره ولا يقابل الآخر والمختلف. غير أن القصيدة، مثلنا، نحن الثديّات، تترهل إن لم تتحرك. إنها تتلف في مكانها وتصبح، مع الوقت، عاجزة، ليس عن الحركة فحسب، بل عن البقاء حية.

المساهمون