الحرية والعدالة: بيت الدمى من باب آخر

الحرية والعدالة: بيت الدمى من باب آخر

05 يونيو 2016
فرانسوا مورلي/ فرنسا
+ الخط -

لم تتوقف الفلسفة الحديثة بمختلف تياراتها عن مساءلة مفهوم الحرية، حتى يمكننا وبدون مبالغة أن نقول بأن الفلسفة الحديثة هي فلسفة الحرية بامتياز.

ربما يكون التيار الجمهوري داخل الفلسفة السياسية المعاصرة أكثر إقناعاً في ما يتعلق بنظريته عن الحرية، مقارنة بالتيار الليبرالي والتيار الليبرتاري. إن مفهومه عن الحرية، كما صاغه أحد رموزه المعاصرين، وهو المفكر الأيرلندي فيليب بيتيت Philip Pettit، يتلخص في كلمتين: غياب السيطرة.

إنه يفتتح كتابه "الحرية العادلة" بالإشارة إلى مسرحية إبسن الشهيرة "بيت الدمية"، والتي تحكي قصة نورا وزوجها، وعبرهما قصة الحرية. إن نورا تعيش حياة سعيدة رفقة زوجها وهي تقوم بكل ما تريد القيام به، ولكن ليس لأنها حرة، بل لأن زوجها متسامح مع ذلك إلى حد كبير ولا يمارس سلطته عليها. إنها الحرية كعدم تدخل كما يسميها بيتيت، وهي حرية لا تصنع من نورا إنسانة حرة، بل مجرّد دمية في بيت الدمى.

فلكي نكون أحراراً يتوجّب أن نمتلك القدرة على اتخاذ قرارات دون انتظار موافقة أو مباركة الآخرين. فمنطق السيد يتناقض ومنطق الحرية. ولهذا فإن الحرية في هذا المعنى لا تشترط كما يبيّن بيتيت غياب أي تدخل للآخرين ولكن غياب أي شكل من أشكال الخضوع لهم.

إن فهم الحرية كغياب للسيطرة، سيجعلنا ننظر إلى المجتمع المعاصر بعين نقدية. لأنها مجتمعات لم تتحقق فيها إلا بشكل نسبي هذه الحرية. وبيتيت يعني بطبيعة الحال هنا المجتمعات الغربية. لكن سؤال الحرية يطرح بالضرورة العلاقة بين الحرية والعدالة. وبالنسبة لبيتيت فإن "العدالة هي الحرية والحرية هي العدالة".

إن سؤال الحرية يتعلق بثلاث قضايا: العدالة الاجتماعية والعدالة السياسية والعدالة الدولية. والمفكر الأيرلندي يرى أن الطريق إلى تحقيق ذلك يمر عبر مفهوم للحرية كغياب للسيطرة. لأنه مفهوم يرى في علاقات اجتماعية تقوم على التبعية أمراً مناقضاً للعدالة.

فالإنسان الذي يرتبط في لقمة عيشه بشخص آخر لا يمكنه أن يكون حراً والمجتمع الذي يؤبّد مثل هذه العلاقات لا يمكنه أن يكون عادلاً. ولهذا يتوجّب حسب بيتيت بناء نظام اجتماعي واقتصادي يسمح للناس بالحياة في حرية، دون تدخل من الآخرين.

إن الحرية بهذا المعنى، هي بمثابة معيار للعدالة الاجتماعية. ليس فقط ذلك، بل للعدالة السياسية والدولية بحسب المفكر الأيرلندي، الذي يطمح في كتابه الآنف الذكر، إلى بناء فلسفة سياسية للعدالة الاجتماعية والديمقراطية والدولية، اعتماداً على مفهوم الحرية كغياب للسيطرة.

فحضور هذه الحرية في العلاقات بين الأشخاص من شأنها أن تؤدي إلى تشكل مجتمع عادل، بل إن المواطنة هي مرادف للحرية في هذا السياق، كما أن الحرية في العلاقة بين الأشخاص والدولة شرط الديمقراطية، وهو ما أطلق عليه بيتيت في موضع آخر "ديمقراطية الاحتجاج"، كما أن تحققها في العلاقة بين الشعوب هو الضمانة الوحيدة لسيادة الشعوب على نفسها.

إن مفهوم الحرية لدى النيو جمهوري فيليب بيتيت، ورغم قدرته الإقناعية على المستوى النظري، يبدو بالنسبة لنا، نحن الذين نعيش في الضفة الجنوبية من المتوسط، أشبه بوهم جميل، بل إننا قد لا نحلم حتى بالعيش في بيت الدمى.

ليس فقط لأن الحرية لا تتحقق على المستويات الثلاثة، بين الأشخاص وفي العلاقة مع الدولة، وفي علاقة دول الأطراف مع المركز، ولكن خصوصاً، ولربما هذا ما لم ينتبه له المفكر الأيرلندي، لأننا لا نملك ثقافة حرية.

فإذا أخذنا مثال نورا في مسرحية ابسن والذي سيعود إليه بيتيت مراراً، فإنه يتوجب علينا ملاحظة أمر مهم، وهو أنه حتى في غياب سلطة زوجها، أي في تحقق الحرية كغياب للسيطرة، فإن ذلك لن يعني بالضرورة حرية نورا.

إن الحرية تبدأ أولاً بمساءلة الحرية نفسها، تلك الحرية التي تتحقق غالباً كانتماء إلى ثقافة أو نظام قيمي، والتي تؤبد من حيث لا تشعر السيطرة الداخلية والخارجية.

المساهمون