ما بعد الحداثة: استهلاك ثلاثة أزمنة

ما بعد الحداثة: استهلاك ثلاثة أزمنة

16 مايو 2016
نهاد الترك/ سورية
+ الخط -

في الخطاب النخبوي العربي، خلال العقود الخمسة الأخيرة، استُعمل مصطلح الحداثة (والنهضة قبله) بكثافة، حتى أنه يبدو اليوم مستهلكاً مستنزفاً، وبات مثل عملة مُسحت كتابتها من كثرة التداول.

أكثر من ذلك، يبدو تراكم الحديث عنها، والقراءات والتنظيرات وإقحام المصطلح في محلّه وغير محلّه، وخصوصاً وضعه كنيشان من قبل الجميع؛ يبدو أن كل ذلك قد جعل من فكرة الحداثة مثل دغل يحجب ما وراءه وينفّر من التفكير في دخوله، حتى إن عملية التأريخ للأفكار في العالم العربي تبدو أعقد من قرينتها في الغرب رغم ضخامة الثانية مقارنة بالأولى.

وضعية تضخّم مصطلح الحداثة، وتعثّر تحققها، باتت عنواناً لانسداد في الفكر العربي في الوقت نفسه الذي تسارعت فيه الأحداث، ما ضخّ المنطقة بمصطلحات جديدة، وضخّم الاستعمالات القديمة أكثر.

في الأفق نفسه، يدخل عامل ضاغط آخر، إنه ما بعد الحداثة، والذي يهيمن على الخطاب النخبوي في الغرب، وليس نادراً أن تتسرّب مصطلحاته وأفكاره في عروق الثقافة العربية، سواء بسبب الاحتكاك الأكاديمي أو الفني أو غيرهما.

من مؤشرات حضور ما بعد الحداثة مثلاً، وصول بعض من مراجعه الفكرية من خلال الترجمة، ككتاب "نهاية الحداثة" للمفكر الإيطالي جياني فاتيمو بترجمة نجم بوفاضل الذي صدر عن "المنظّمة العربية للترجمة" في منتصف 2014.

مسافة سنتين، هل أسعفت العمل بمقروئية عربية؟ لا ندري، ولكن لا نرجّح ذلك. الكتاب يؤسّس للقول إن ما بعد الحداثة لم تعد فقط دعوة لتجاوز أزمة الحداثة، ووضع طرائق كما هو الحال من هايدغر إلى ليوتار ودريدا، بل إنه يقول إن مرحلة الحداثة انتهت بالفعل، أو هكذا ينبغي النظر إليها قصد تصفيتها، ليجري الانتقال إلى حقبة فكرية جديدة.

ليس من الصعب أن نتوقع أن تعثّراً في الانتقال إلى هذه الحقبة الفكرية الجديدة سيقع في البلاد العربية، خصوصاً أنه لم يجر تجاوز تعثّر الدخول التام في الحداثة. رغم ذلك، فإن طرح فاتيمو يمكن أن يُلقح الوضع العربي بدماء فكرية جديدة، فالفكر (نظرياً) هو أكثر العناصر مرونة من بين عناصر صناعة التاريخ، لأنه يمكن أن يتعامل مع قضايا لا تشغل بال مجتمعه (علماء الرياضيات والكيمياء العرب نموذجاً) لذا من المُفترض أن يكون معدّلاً على ساعة آخر ما وصله العالم.

الانتقال من الحداثة إلى ما بعدها، هو بحسب فاتيمو انتقال في فهم التطوّر التاريخي، ففي الأولى هو عملية تراكم تنوير تصاعدية، وفي الثانية بتنا نعرف أن هذا التصاعد لم يعد حامياً من الارتطامات والأزمات الحادة ومن العدمية، ومن هنا أُضيفَ عنصر جديد هو إمكانيات التفكير مجدداً في الأسس وبناء مسارات جديدة (فكرة هايديغرية) وأن كل التاريخ الذي عشناه لم يكن سوى إمكانية وحيدة.

للأسف، لا يزال الزمن الفكري الجديد سجين نصوصه، وحين يتحرّر منها إلى الهواء الطلق ينبغي أن تتلقفه مشاريع أكاديمية وسياسية واجتماعية وحتى صحافية، لتحوّله إلى فاعل في الراهن، ومن ثم في التاريخ، لكن لتتحسّب من استهلاكه واستنزافه كما حصل مع الحداثة.

المساهمون