في باحة التنوّع والوحدة

في باحة التنوّع والوحدة

01 يونيو 2015
مسجد جليل خياط، أربيل/ العراق (تصوير: كرم السنجاري)
+ الخط -

في برنامج تلفزيوني شاهدته، تأخذ المشاهدَ عدسة التصوير، التي يبدو أن يداً ماهرة تمسك بها، إلى جولة بين مختلف المساجد الإسلامية في الشرق والغرب، وتدخل به إلى قلب المساجد وتفاصيلها المعمارية، وإلى أطرافٍ من تاريخ بنائها، وأسماء المعماريين الأفذاذ الذين أقاموها، والفنانين الذين أبدعوا زخارفها ونقوشها وخطوطها، وتحدّد عدسة التصوير خصائص كل مسجد وما يتميز به.

ولكن رغم كل هذا، لا يحصل المُشاهد من التعليق الذي يرافق عدسة التصوير إلا على ممكن واحد من الممكنات التي تحملها هذه العمائر. فالمعلّق يركز على وصف ما ترينا إياه العدسة، ويحصر نفسه في وصف تفنّن المعماريين، وهذا ليس إلا ممكناً واحداً، إذا أخذنا به وحده فكأننا نسلب المسجد معناه الدال على أشياء أكثر أهمية من كونه مجمعاً للزخارف.

المسجد تعبير عن قيم حملها الإسلام إلى العالم، وتجسّد جانبٌ منها في معماره. مثلاً، لا ينبغي أن يغيب عنا ونحن نتابع رحلة عدسة التصوير تنوّع النمط المعماري لهذا الفضاء ودلالته. أعني أن الإسلام امتلك مرونة وسماحة غير مسبوقة في السماح بالتعدّدية، ولم يفرض على المسلمين نمطاً واحداً من أنماط المعمار. لقد استجاب لضرورات تغيّر الجغرافيا البشرية والطبيعية، وهذا يقطع الطريق على كل محاولة لفرض نمط واحد من أنماط المعمار على المسلمين أو الطعام أو اللباس أو الكلام أو التفكير، بحجة أن هذا هو "النمط الإسلامي".

صحيح أن هناك وحدة في هذا التنوّع تمثلها عناصر المسجد الأساسية، مثل وجود المنارة والصحن والقبة والمنبر والمحراب، ولكن هناك أيضاً تنوّع في عدد المنائر وأشكالها وارتفاع القباب وعددها. وهناك حرية في تشكيل المحراب والمنبر، فالمسلمون الصينيون أضافوا شبه شرفات مجنحة إلى مساجدهم، وأضاف معماريّو سمرقند وبخارى قناطر وأعمدة عملاقة، وهو ما يطلق عليه تسمية "مبدأ التنوع في الوحدة"؛ ذلك المبدأ الجمالي، ولكنه مبدأ أخلاقي أيضاً.

حين نقدّم مسجداً فالممكناتُ كثيرة. منها وضع المسجد في سياقه التاريخي، بذكر ما شهدته باحاتُ هذه المساجد ومنابرها من أحداث تاريخية مهمة. هل يمكن أن نتجاهل مثلاً أن المسجد الأقصى اقتحمه غزاة الفرنجة في الأزمنة القديمة، أو أن منبر صلاح الدين التاريخي الذي أعدّه له نور الدين زنكي قبل تحرير القدس، أحرقه الصهاينة في العام 1969 بعد أن احتلوا القدس واستباحوها.

لا نبتغي من هذه الملحوظات تصحيح برنامج تم تسجيل حلقاته وبثها، بل نستهدف تنبيه المساهمين في هذه البرامج، تصويراً وتعليقاً، إلى أن الاطلاع على آلاف الدراسات التي نشرت بمختلف اللغات عن المساجد الإسلامية أمر ضروري. فللحجر لغة أيضاً، والمسجد ليس مجرّد ألوان وخطوط وزخارف وأعمدة وباحات، بل هو قبل كل شيء تعبير عن قيم حضارة أضاءت ذات يوم، وما زالت تضيء، زوايا معتمة في هذا العالم.

المساهمون