سيميولوجيا الحياة اليومية

سيميولوجيا الحياة اليومية

31 مايو 2015
"منبوذ"، هدى لطفي، تجهيز بمواد مختلفة (2012)
+ الخط -

في نهاية الخمسينيات، نشر رولان بارت كتاباً تحت عنوان "ميثولوجيات"، يضمّ نصوصاً ظهرت له في الصحف اليومية. يسعى بارت في هذا الكتاب إلى الكشف عن آليات توليد المعاني في المجتمع الفرنسي، تلك المعاني التي تدخل في منظومات يكون على الدارس الكشف عن قوانينها، وتندرج في بنيات يكون عليه "إبراز قواعد لعبتها".

بيّن بارت، الذي كتب مرة "إن اللامعنى هو مكان الدلالة الحق"، أن توليد المعاني يمكن رصده من خلال الوقوف عند ما يدعوه "الفلسفة العمومية" التي تغذي طقوسنا اليومية، وتحدّد لباسنا وتدبير شؤوننا اليومية من قراءة للصحف وارتياد للمسارح.

لا يتعلق الأمر مطلقاً بما اعتدنا تسميته "الثقافة الشعبية" في مقابل "الثقافة النخبوية"، كما أنه ليس مقابلة "الوضيع" بـ "الراقي" بالمعنى القيمي للكلمتين. موضوع هذه الدراسات أقرب إلى ما اعتدنا أن ندعوه "تفاهات" الحياة اليومية.

أوجه الشبه كثيرة بين هذا النوع من الاهتمام وذاك الذي نجده عند أصحاب التحليل النفسي، ابتداء من المؤسّس فرويد إلى دانيال سيبوني في كتاباته حول اليومي. كما أننا قد نجد شيئاً من هذا عند فالتر بنيامين، ونجده اليوم عند ميشيل دو سارتو في "ابتداع اليومي"، وأمبرتو إيكّو في "حرب الزّيف".

عند كل هؤلاء نلمس اتجاهاً نحو نقد لا يقتصر على الثقافة كأشكال "سامية"، وإنما يتصيّدها في "أتفه" تجلياتها، ويضبطها وهي تعمل في معمعة اليومي، قبل أن تتبلور في المفهومات المغرقة في التجريد، والأشكال الثقافية "غير التافهة".

وهكذا ستتخذ موضوعات مثل آليات الإشهار ومباريات الرياضة ولعبة الكاتش وخطاب الموضة ودليل السياحة ولعب الأطفال ومواد الغسيل... كل هذه الموضوعات ستتخذ أهمية بالغة، وسيُنظر إليها من حيث هي "منظومات دالة" يجري عليها، كما يرى بارت، ما يجري على أية علامة من كونها اعتباطية، وكون معناها يتولد عن اللامعنى، ولا تستقيه إلا من خلال المنظومات التي تدخل فيها، والاختلافات التي تشدّها إلى غيرها.

لا ينبغي أن ينقلنا عنوان كتاب بارت إلى الأسْطَرة بمعناها التقليدي، فليست الأسطورة هنا "حكايات الخوارق". فما تسعى إلى أن تكشفه السيميولوجيا هنا، هو ما تنطوي عليه المنظومات الدّالة التي ترمي إلى أن تجعل من ثقافة طبقة بعينها طبيعة كونية.

ذلك أن تلك المعاني "التي تتولد من اللامعنى" سرعان ما تميل نحو الثبات والإطلاق فتنسى اعتباطيتها وتزعم الضرورة والكلية، وسرعان ما تسكن السلوكات اليومية والتصرّفات "العادية"، فتسعى نحو الترسّخ والمحافظة والتقليد.

ومهمة "سيميولوجيا الحياة اليومية" هو التصدّي لهذه "الأسْطرة"، وفضح لعبة توليد المعاني وسعيها نحو التّرسخ. يتعلق الأمر إذاً بنوع من النقد الإيديولوجي الذي ينصبّ على لغة الثقافة التي تُدعى "ثقافة الجماهير"، إلا أنّه نقد مشفوع بتحليل سيميولوجي لهذه اللغة.

المساهمون