إبراهيم الحَيْسن: مصير الجسد في اللوحة المغربيّة

إبراهيم الحَيْسن: مصير الجسد في اللوحة المغربيّة

02 مارس 2015
محمد القاسمي
+ الخط -

في كتابه "الأيقونة والجسد: نماذج من الفن التشكيلي المغربي"، الذي صدر حديثاً عن "منشورات جمعية الفكر التشكيلي"، يسعى الناقد المغربي إبراهيم الحَيْسن إلى مساءلة نماذج فنية من مدونة التشكيل المغربي، في تعاطيها مع ثيمة الجسد، وذلك انطلاقاً من ثلاثة محاور رئيسة، هي "الجسد التشكيلي: الذاكرة والمسار"، و"تصوير الجسد: تجارب ومقاربات"، و"سؤال الجسد: الرؤية والفضاء".

وقبل المباشرة في معالجة هذه المحاور، يعود الباحث أولاً إلى الجذر اللغوي والاصطلاحي لكلمة "الجسد" في بعض المعاجم القديمة، ليبيّن أنها تُستخدم لجسم الإنسان، لا لغيره من الأجسام المتغذّية، كما تعني الجزء المادي للكائنات المتحركة الذي تقابله الروح.

بعد ذلك، يتوقف عند إضاءة أوردها الباحث المغربي حميد اثباتو في إحدى دراساته، وتفيد بأن "الجسد" يفقد معناه الحرفي مع إنتاجه واستهلاكه، بحيث يصبح مستهلكاً ومنتجاً لمنظومة رمزية، ومؤطراً في نحو وقواعد المؤسسة المجتمعية التي تلزمه بحدود ومحرّمات، وتطوّعه بالترغيب والترهيب.

وعلى هذه الخلفية، يطرح الحَيْسن عدداً من الأسئلة يهدف من خلالها إلى مقاربة حضور الجسد في التشكيل المغربي عبر رهانات التشكيليين المغاربة المختلفة على هذه الموضوعة في إنتاج أعمالهم الفنية.

ومن هذه الأسئلة: ما هي الأسباب التي تدفع بعض الفنانين إلى استحضار الجسد عبر قوّته الرامزة، بما يعنيه ذلك من تغييب للعديد من إيحاءاته الجنسية ومن حجب عناصر إغوائه التي تخضع لقوة التحريم وعنف السلطة؟ وكيف استطاع هذا الحضور المستتر لمفاتن الجسد أن يتغلّب على كبته ويتحرر من رمزيته، ليظهر في أعمال فنانين آخرين عارياً ومطرّزاً بمفردات جمالية مستعارة من مرجعيات بصرية متعددة؟ وما هي الدوافع التي جعلت فريقاً ثالثاً يستحضر هذا الجسد متشظّياً ومسلوخاً بشكل يثير التقزز والاشمئزاز؟

محمد حميدي، مواد مختلفة على كرتون، 1984


في سعيه إلى الإجابة عن أسئلته، يراهن الباحث على إعادة قراءة ووصف وتأويل بعض مسارات التجربة الفنية المغربية، وعلاقتها بثيمة الجسد، بما هي اقتراح موضوعاتي جمالي يتطلّب جرأة، سواء في التناول أو في التوظيف، كما يتطلّب وعياً ناضجاً على المستوى المعرفي كما على مستوى الاستدعاء الفني والإنجاز.

وفي هذا السياق، ينطلق الباحث في إثارة مسألة تمثُّل هذه الثيمة من قبل الفنانين المغاربة، وكيف اختلف هذا التمثل من فنان إلى آخر، معتبراً أن هذا الأمر يبقى مقروناً في معظم الأعمال بمعاني القهر والاضطهاد والقتل الرمزي ومصادرة الحلم، كما يحضر كصورة محرجة تعكس الاغتراب الداخلي الذي ينخر وجداننا الجمالي المشترك.

على هذه الخلفية الجمالية، يستحضر عدداً من التجارب التي كان أصحابها سبّاقين إلى تناول الجسد بشكل اختزالي، من دون إهمال لأبعاده الجنسية، مثل الفنان الراحل فريد بلكاهية الذي تظهر الأجساد في لوحاته على هيئة أشكال ملتوية ومتموّجة وحرّة، تطفو في الفضاء متباعدة أحياناً ومتلاحمة أحياناً أخرى، بما يبرز ذلك التداخل بين الذكوري والأنثوي.

ويظهر الحضور نفسه في أعمال مبدع آخر من الجيل نفسه هو الفنان محمد حميدي، الذي تتكئ أعماله على رموز ذات إيحاءات إيروتيكية عالية تتفاعل مع رموز أخرى مستعارة من الثقافتين الأفريقية والمغربية في بعدهما الشعبي.

ومن الجيل اللاحق، يقف الحيسن عند تجربة الراحل محمد القاسمي، الذي كان استثماره لهذه الثيمة في أعماله الفنية يستند على معرفة عالمية؛ معرفة قادته إلى توظيف الجسد بأبعاد تشكيلية تراهن على حضوره المتشظّي، الموزع والمتلاشي، بما يعكس حالة وجودية مقهورة ومسحوقة، قبل أن يقوم، في مراحل صباغية لاحقة، بتطوير هذا التمثّل، من خلال معالجته تشكيلياً وفقاً لتصوّر أكثر إيروتيكية.

فريد بلكاهية، صباغ على جلد، 2004


وعلى المسعى نفسه راهن أيضاً الفنان عزيز سيد الذي حاول، بكثير من البداهة الإبداعية، الاشتغال على الجسد العاري المنهك والمحطّم، الجسد الذي لا يحمل هوية صاحبه، من خلال إمعان في إخفاء وجوه شخوصه. جسدٌ لا تنقل اللوحة منه إلى المُشاهد سوى بعض تمثّلاته العضوية وحركاته المعبّرة.

ومن التجارب الصباغية المغربية الأخرى التي يتوقف الحَيسن عندها ويصنّف أصحابها في خانة المراهنين على استحضار الجسد باعتباره مجموعة صور تعبيرية متنوعة، نذكر: سعد بن السفاج، ميلود لبيض، بغداد بنعاس، محمد الدريسي، محمد أبي الوقار، عباس صلادي، محمد خصيف، شفيق الزكَاري، بوشتى الحياني، حسين موهوب، عبد الكبير البحتوري، عبد الكريم الأزهر، المنصوري الإدريسي، سيدي محمد، سعد الحساني، سعيد حسبان، الحسين إيت أمغار..

تجارب حاول أصحابها مقاربة ثيمة الجسد وفقاً لتصوّرات وتمثّلات متفاوتة، تعكس، في العمق، مدى الإشكالات التي تطرحها، أمام مختلف سلطات المنع القاهرة، الدينية والسياسية، التي ما زالت تنظر إلى هذه الموضوعات باعتبارها مناطق ظل تتطلب حذراً شديداً سواء في الاقتراب منها أو في تناولها فنياً.

دلالات

المساهمون