ملتقيات دمشق الشعرية: الحياة قرب ماكينة الموت

ملتقيات دمشق الشعرية: الحياة قرب ماكينة الموت

26 ديسمبر 2015
"كون"، عمل لـ تمّام عزام (صورة البنايات: نور كلزي)
+ الخط -

وحدها الكلمات تجمع ما تبقى من ثقافة المدينة المخنوقة بالحواجز والرعب والحرب. الشام تتحوّل إلى نصوص، مفرداتها الناس، والثقافة الجديدة تنشر وحشتها عبر بعض المثقفين خلال لقاءاتٍ اقترحتها الرغبة في البقاء على قيد القصيدة، وفعاليات أهلية ثقافية فنية، بعيداً عن المؤسسة الرسمية.

هكذا جاءت ملتقيات دمشق الثقافية منذ عام ونصف، من بين حارات المدينة القديمة، في محاولة لإعادة إنتاج المشهد الثقافي بأمسيات توقيع الكتب الأدبية وإلقاء الشعر، إلى جانب الكمنجات والبزق، وأحياناً الغناء.

"أضواء المدينة" و"خمر وشعر" و"نصف الكأس" و"ثلاثاء شعر" وسواها، هي أسماء لملتقيات شعرية وأدبية تختلف في مزاجيتها وجمهورها حسب شعبية المشرفين، ربما، وموقفهم من الأحداث الراهنة، وحسب ثقافة التلقي الموروثة.

قد تجد من يرتاد هذا الملتقى لأنه على مسافة واحدة من الجميع، ولم يتبنّ موقفاً سياسياً، وذلك شرط لاستمراره من دون مساءلة أمنية، بينما تجد ملتقى آخر برعاية حزب "معارض"، لكن نصوصه تمجّد إنجازات السلطة.

العاصمة التي كبّلت حواجزها الحركة اليومية، بقي بعض من أهل الثقافة فيها يكسرون صمت العتمة والخوف، يقودهم الطريق مثلاً إلى مناسبة في مقهى "القصيدة الدمشقية" لصاحبه المصوّر حكمت داود، تطالعك وجوه الموجودين بانتظار توقيع رواية جديدة، أو سماع قصيدة شعر محكي على إيقاع القصف القادم من ريف دمشق.

أحد الحاضرين يقول: "قطعت مسافة طويلة من ضاحية قدسيا إلى باب شرقي لأسمع شعر كفاح الخوص بالمحكية، فهو يعجبني في الشعر أكثر من التلفزيون". تهمس إحدى الجالسات: "كل ما كنّا نحتاجه قليل من الأمان والموسيقى، الحرب أصبحت عادة يومية، لنمت ونحن نحقّق رغبات كهذه، فقط أن نلتقي، أن نحب، أن نبتسم قبل المضي".

محاولات ثقافية خلقتها مبادرات فردية لإعادة الثقة في الكتاب والكلمة والقصيدة والثقافة. كانت مقاهي الشام القديمة بوصلة لإطلاق تلك اللقاءات الأسبوعية. المتابع للشأن الثقافي السوري، سيجد أن ثمة "تراتبية حجرية" من مؤسستين حجريتين بتفاوت بسيط بينهما في شدة القساوة ودرجة النفوذ؛ هما وزارة الثقافة و"اتحاد الكتاب".

بهذا الوصف للفجوة بين الثقافة والناس، يلخّص الشاعر معاذ اللحام، أحد المشرفين على ملتقى "أضواء المدينة" الأسبوعي، الذي يديره إلى جانب الشعراء جورج حاجوج وعلي العقباني وإلياس بيطار.

هناك، نلتقي بمن يقدّم قراءات لشعراء من سورية وخارجها، بعضهم من الشعراء الشباب. الهدف هو تقديم المتعة اللغوية لتجارب متنوعة في الأدب المحلي والعربي والأجنبي. حين تجلس كل سبت في مطعم "نينار" على بعد كيلومترات قليلة من جبهة جوبر المشتعلة، تطلب كأساً وتنتظر البدء.

بعد "باب شرقي"، يعلو صوت الشعر والكمنجة. يُسمع صوت انفجار قذائف الهاون في مكان قريب، لكن جمهور الشعر ينظر إلى النوافذ ويستمر بشغفه، يعلّق أحد الحاضرين: "نفدْنا، كمّلوا شعر..!".

كانت فكرة الملتقيات بديلاً واقعياً عن عمل المؤسسات الرسمية؛ فتجربة عام من "أضواء المدينة" كانت مفتوحة على احتمالات الحضور والغياب والتغييب. ينتشر الرعب في الشوارع كالدخان الأسود المتصاعد من ضواحي الاشتبكات القريبة.

وفي "أضواء المدينة"، يفكّرون في ردم الهوة بين الناس والثقافة، بين الثقافة والسياسة، بين الثقافة والدين، بين الثقافة وروح العصر، حسب رأي اللحام: "حاولنا خلق فضاء مدني، بعكس جمعية المراكز الثقافية الخيرية التابعة للدولة".

بينما لا يهتم "ثلاثاء شعر" لحضور الجمهور، فصاحبه الشاعر زيد قطريب، قرّر النأي بجماعته عن المدرّجات والأمسيات، بعد أن اكتشف الفساد الذي يعتري مؤسسات الثقافة، ذهب نحو مؤسسات المجتمع الأهلي كي يؤسّس مشروعه خارج المحسوبيات.

الشباب هنا شعراء جدد، يجتمعون في أي مقهى وسط العاصمة، وأحياناً في مكتب "جريدة النهضة" في حي المزرعة، يتبادلون قصائدهم، يقرؤون ديواناً جديداً، يعلقون عليه، يلتقطون الصور، وينشرون ما دار من نقاش على الفيسبوك.

يقول زيد قطريب: "إن اللقاء ورشة عمل إبداعية هدفها اقتفاء أثر النص السوري الذي يُكتب في زمن الحرب. هذه الأهداف من الصعب على المؤسسات الرسمية تحقيقها؛ لأنها مشغولة بقبض المكافآت وتحقيق المكاسب والوصول إلى المسؤوليات بلا مؤهلات.. إنهم موظفون لا يختلفون كثيراً عن معقبي المعاملات".

أحياناً كثيرة نتوه جغرافياً ومعنوياً عن عنوان ملتقى "يامال الشام.. شعر وخمر" لصاحبه المسرحي أحمد كنعان، فأنشطته غزيرة مشتتة، ودعمه الحزبي يثير أسئلة شائكة. ملتقى يقدّم جوائز، ويطبع كتباً، يقيم مهرجانات، ولا ترعاه الدولة بشكل مباشر. المنتج الثقافي هنا يتخبّط.

مثلاً، وقف أحد الشعراء من "الحزب السوري القومي الاجتماعي" على منبر "يا مال الشام" وطلب من الجميع "أن يكتبوا قصائد تمجّد بطولات الجيش السوري، واتهم كل من يكتب عن النساء والحب، حالياً، بأنه "عميل للغرب".

وفي متابعة لحال النقد الذي رافق تلك الملتقيات، نلمس دفاعاً مستميتاً لكل فريق من هؤلاء. بعضهم يبرّر بالصمت خوفاً على حياته، وبعضهم الآخر في كفة "الوطنية" ينتقد الهيئات الرسمية الأهلية من جهة، ويضرب التحية العسكرية للسلطة من جهة أخرى؛ فالصحافة الوحيدة في الشام هي صحافة الدولة.

كل ذلك يعتبر أفضل بالمقارنة مع أنشطة ثقافية مدجّنة منذ أربعين عاماً تقدّم الضياع وأوهام الأمل لدخول العمل الثقافي إلى القاعدة الشعبية وتأثيره فيها. ميزانية وزارة الثقافة لا تكاد تبلغ سوى 0.70 في المئة من الميزانية العامة للدولة السورية، حسب مسؤول سابق في الوزارة.

هكذا، في أسبوع واحد، كل يوم تقريباً ثمة لقاء ثقافي ما، يزور بعض الناس تلك الأمسيات عبر صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ليتعرّفوا على منابر دمشق الشعرية. يذهبون إلى الموعد، يجمعون بعض أشلاء القصائد، صوراً وذاكرة أخرى، يبحثون عن وقت للحياة بعيداً عن ماكينة الموت اليومي التي تديرها أياد حديدية تكره الشعر والموسيقى والفرح.



اقرأ أيضاً:
 "السوريون الأعداء": ضحايا وثوار ومخبرون

المساهمون