عزيز عياشين: توزيع الطفولة على اللوحة

عزيز عياشين: توزيع الطفولة على اللوحة

11 يناير 2015
+ الخط -

رمال وخطوط وحيوانات وأشكال وأوشام وحلي ورموز عربية وأمازيغية، وملامحُ تبحث عن ملامحها، هي الكائنات التي تقطن لوحات التشكيلي الجزائري عزيز عياشين (1979) المعروضة حالياً في رواق "دار الثقافة" في مدينة الشلف، غرب الجزائر العاصمة. كائنات تحضر بألوان تحاور بعضها بحرارة، كأنها تبحث عن الاختلاط، عن اختصار ذواتها في لون واحد يقول الحياة.

الحياة في اندفاعها نحو الطفولة والأسئلة الصغيرة التي تفسر شغف الإنسان بالمكان الذي يعيش فيه، حيث يصبح كل "فرد" من العائلة اللونية نفسها، حمّالَ وجهٍ من وجوه هذه الكينونة، ما يخلق رغبة في الانصهار حتى اكتمال الملمح. هل هذا ما يفسّر لوحة عياشين المشحونة بجملة من الموتيفات التي يمكن عزل كل واحدة منها عن الأخريات، فتشكل لوحة مستقلة؟

عياشين واحد من التشكيليين الذين درسوا الفنون الجميلة، وبرمجوا أناملهم عليها، حين كان العنف والموت سيّدين في الشارع الجزائري، بل حين كان هذا الشارع يتأهب للتمرد على هذه السيادة المقيتة، نهاية تسعينيات القرن الماضي. هذا ما يفسّر جنوحه نحو المفردات التشكيلية البسيطة (البساطة بمفهومها الجمالي)، فكأنه يلملم ما تشظّى من الحياة، ويعيد تلوين ما جعله الموت بلا لون. يقول: "أن ندافع عن الحياة، ونسعى إلى أن نعيد إليها مفرداتها، هو واجب إنساني قبل أن يكون حاجة فنية".

يبدو هذا الهاجس واضحاً في أعمال الفنان، لكن بعيداً عن الصراخ اللوني، والتنطّع خارج ما تقوله الرموز، وهي تحاول أن تتوطن من جديد في بيئتها، بعد دمارين مسّاها، ومسّا ملامح وأرواح حامليها من الجزائريين: دمار الاستعمار الفرنسي (1832 ـ 1962)، ودمار "سنين الجمر" بتعبير السينمائي محمد لخضر حمينة.

لا يتعب عياشين في البحث عن رموزه، مثلما لا يتعب متلقّوها في إدراك حرارتها/ حميميتها، كأنه يكتشفها للمرة الأولى، هو المتعود على أن يمر عليها مرور الغفلة. فهي تصادفه في حلي أمه أو صديقته، في الأواني الخزفية التي تؤثث يومياته، وتصنع أفقه البصري منذ الطفولة. تغيب المرأة في اللوحة، لكنها تحضر من خلال أشيائها الصغيرة والحميمة.

سألناه عن السبب الذي يقف خلف إصراره على "جزأرة" ألوانه، فأجاب إنه كان سيمنحها هوية أخرى، لو رأى النور أول مرة في بيئة مغايرة: "نحن في الحقيقة لا نلوّن إلا ما يعلق في طفولتنا من مشاهد". بهذه الروح يتواشج عياشين مع جميع التجارب التي تصطاد في هذا المنحى؛ منْح الفن التشكيلي هويته الجزائرية، حتى وإن كانت تنتمي إلى رؤى مختلفة تماماً عن رؤيته، ذكر منها تجارب إيتيان ديني ومحمد إسياخم ومحمد بوكرش.

هنا يقدّم اللون نفسه خادماً لهذه الرؤية (هل يمكن التعبير في الفن التشكيلي عن رؤية ما خارج الألوان؟)، حيث نجد الأحمر الحار، والأسود الذي يبرز جميع الوحدات ذات الملمس، معزّزَين بالترابي والقرميدي الحاملَين لروح الأرض. يقول عياشين: "تسيّرني الاختلاجات العميقة، وأنا أتشابك مع اللون. علاقتي به ليست نقلية، بل هي انتقاء عفوي لا إرادي".

ليست اللوحة عند الفنان سوى مرآة للذات، تسكن عميقاً فيها، ولا تعكس بالضرورة كل ملامحها، لكنها لا تغفل رصد الهواجس والأسئلة، وتحريرها من الكبت والانحباس. "ما الذي تنتظره الحياة منا؟ أعتقد أنها لا تنتظر إلا أن نعيشها ونرسمها".

لا تتحول الأسئلة والهواجس، التي يرسمها عياشين في لوحاته، إلى إجاباتٍ ورسائل اجتماعية مباشرة، بل إلى إحالاتٍ إلى فراغات اليومي، وهو يجرّنا إلى اطمئنانات السطح، كي نسدّها بما تيسّر من الطفولي والحالم، فالحلم عنده "روح العيش"، وما فقدانه إلا بداية لموتنا الحقيقي.

أسماك وتماسيح وديوك وفراشات تلعب داخل اللوحة، وفعل "لعب" هنا يفرضه الانطباع الناتج عن مشاهدتها للوهلة الأولى، فوضعية الحيوان في القلب، وزرع حروف ورموز فيه/ عليه، يؤنسنه بشكل يجعلنا نتماهى معه، وننسى أحكامنا المسبقة عنه، حتى أننا نتقبل لحظتها أن نتسمّى به، لأننا نكون غارقين في الحلم بأن نكونه.

تؤمن لوحة عزيز عياشين بالأبعاد الإنسانية التي لا يخلو منها كائن من الكائنات، حيّاً كان أم جماداً، وما دورها إلا نبشها، وإبرازها للعين، حتى تتحرر من الرؤى الجاهزة التي ورثتها عن هذا الكائن، فتعلن المصالحة معه من جديد، لأنه كان موجوداً منذ بدء الخليقة. يقول: "أؤمن بأن كل ما نحلم به في الحقيقة، كان موجوداً في البدايات، قبل أن يخرّبه الإنسان، ويطوّقه بأحكامه الجاهزة، التي أملتها عليه رغبته في السيطرة".

شارك صاحب لوحة "السمكة" في معارض في تونس ودبي وفرنسا ومصر والمغرب وفلسطين. وفي كل مرة، كان يعود بحلمٍ يعمل مع نخبة من التشكيلين على أن يتحقق، أي أن توفر الجزائر المعايير العالمية في قاعاتها التشكيلية: "من غير المنطقي أن نفتقد، بعد نصف قرن من الاستقلال، إلى متاحف محترفة تحتفي بالفن والفنانين من غير إهمال أو ارتجال". ويضيف: "آن لنا أن نقتنع بأن توفير ذلك هو واجب وطني بالدرجة الأولى".

المساهمون