جدل المثقف والسلطة.. حكاية كل عام

جدل المثقف والسلطة.. حكاية كل عام

02 يناير 2015
فوتوغرافيا: قادر عطية
+ الخط -
رحلت سنة 2014 ورحلت معها خليدة تومي التي عمّرت على رأس وزارة الثقافة طويلاً. وعلى طريقة "مات الملك.. عاش الملك"، أطلّ كثيرٌ من المنتفعين في العهد السابق، ليرجموا الوزيرة السابقة ويتمنّوا من الوزيرة الجديدة تجنّب "أخطاء الماضي".

في قصر "العناصر" (مبنى وزارة الثقافة)، كانت في انتظار نادية لعبيدي تركة ثقيلة عمرها أكثر من اثني عشر عامًا، توّجها مجلس المحاسبة بتقرير تحدّث عن فساد مالي وإداري وسوء في التسيير، خلال المرحلة الماضية.

بدا أن أولوية الوزيرة الجديدة، وهي أكاديمية ومخرجة سينمائية متخرّجة من جامعة "السوربون"، تتمثّل في إعادة ترتيب بيتها الداخلي. هكذا بدأت لعبيدي سلسلة من التغييرات التي طالت عددًا من المناصب الإدارية، في ما سمّته وسائل الإعلام بحملة لتطهير القطاع من الحرس القديم، كما سارعت إلى عقد جلسات مطوّلة مع المثقّفين والفاعلين في الشأن الثقافي، من كتّاب وناشرين وسينمائيين ومسرحيين، للاستماع إلى انشغالاتهم واقتراحاتهم.

أيًّا كان، حمل قدوم لعبيدي تفاؤلاً إلى الوسط الثقافي الذي تنتمي إليه، وأملاً في تحريك المياه الراكدة، لكن التفاؤل والأمل بدآ بالخفوت شيئًا فشيئًا، خاصّة أن أبرز إنجازاتها، إلى حدّ الآن، هو إلغاء دورة هذا العام من مهرجان وهران للفيلم العربي، الذي كانت أحد مؤسّسيه عام 2007.

تبرّر الوزيرة، التي كانت شاهد عيان على انحدار المستوى الفنّي والتنظيمي للمهرجان منذ إقالة محافظه السابق حمرواي حبيب شوقي، إلغاء الدورة بإتاحة الوقت الكافي لإقامة دورة "محترمة" في الربيع المقبل. لكن المشكلة أن الفترة التي تفصلنا عن الربيع هي أقصر بكثير من الفترة التي كانت في يدها للإعداد للدورة الملغاة، مع العلم أن التحضير لم يبدأ ولم يتم تعيين محافظ جديد للمهرجان. ما من شك في أن التاريخ سيسجل بأن المهرجان السينمائي استمر منذ تأسيسه، ولم يتوقّف إلا في عهد الوزيرة القادمة من قطاع السينما.

في قطاع السينما؛ شهد العام المنصرم عودة قويّة للمخرج محمد لخضر حمينة، صاحب أوّل سعفة ذهبية للسينما العربية من مهرجان "كان" السينمائي، بعد غياب استمر قرابة ثلاثين عامًا، بفيلمه الروائي الطويل "غروب الظلال" الذي نال إعجاب واستحسان الجمهور والنقّاد. فعلى عكس كثير من أبناء جيله من مخرجي العصر الذهبي للسينما الجزائرية الذين عادوا إلى الإخراج بأفلام باهتة، أكّد حمينة، ابن الثمانين عامًا، أنه ما زال في كامل لياقته الفكرية والإبداعية.

أمّا المخرج الشاب، إلياس سالم، فأثارت تجربته السينمائية الثانية "الوهراني" موجة من الجدل، بدأت باتهام الشيخ شمس الدين بوروبي للفيلم بالإساءة إلى الجزائر والتطاول على الاسلام والذات الإلهية وتصوير مجاهدي الثورة التحريرية مخمورين، ثم تفاعلت القضية. تلقّفت الأسرة الثورية تلك الاتهامات ودعت إلى منع عرض الفيلم ومحاكمة أصحابه.

وانتهى العام على وقع جدل آخر، أكثر حدّة هذه المرّة، حين أصدر "شيخ سلفي" يدعى عبد الفتاح زيراوي حمداش فتوى بإهدار دم الصحافي والروائي كمال داود. التهمة الجاهزة نفسها تقريبًا: الإساءة إلى الجزائر والعروبة والتطاول على الإسلام.

أثارت الفتوى ردود فعل مستنكرة ومحذرة من عودة خطاب التكفير والكراهية ومن محاولات المس بحرية التعبير، ومتعاطفة مع صاحب رواية "ميرسو.. تحقيق مضادّ"، التي صنعت الحدث الأدبي خلال عام 2014، بعد وصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة "غونكور" وفوزها بعدد من الجوائز الأخرى.

ورغم التنديد الواسع بالفتوى، إلّا أن كثيرين وجدوها فرصة لمهاجمة كمال داود بل واتهموه بمحاولة نيل الشهرة على حساب بلده، كما ذهب الروائي رشيد بوجدرة. لكن اللافت ألّا أحد انتقد الروائي إلّا بعد أن أصبح مشهورًا بالفعل. والمؤكّد أن القضيّة برمّتها أعادت فتح النقاش حول الدين والهوية والتاريخ واللغة، وأظهرت الانقسام الكبير وسط النخب الجزائرية.

ولمّا كان 2014 عام الانتخابات الرئاسية التي أبقت الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في منصبه للعام الخامس عشر على التوالي؛ فقد وصل الانقسام إلى الفنانين أيضًا. اصطفّت الغالبية في معسكر الرئيس بينما اختار آخرون المعارضة، وبعضهم خرج في مظاهرات تدعو إلى التغيير وتندّد بترشّحه لولاية رابعة.

ظهر مغنّي الراي الشهير الشاب خالد رفقة مجموعة من الفنانين في أغنية مساندة لبوتفليقة بعنوان "تعاهدنا مع الجزائر" أثارت استياءً كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وبرز بالمقابل فنانون آخرون أعلنوا صراحة معارضتهم للرئيس، وأبرزهم مغنّي الراب الأشهر في الجزائر، لطفي دوبل كانون، الذي أطلق منذ أبريل الماضي أربع أغنيات وجه فيها نقدًا لاذعًا للسلطة، حظيت بأعلى نسب مشاهدة على الشبكات الاجتماعية.

انتهى عام 2014 إذن. بالنسبة إلى القائمين على الشأن الثقافي في الجزائر، لا يعني ذلك غير أمر واحد؛ هو بدء العدّ العكسي لتظاهرة "قسنطينة عاصمة للثقافة العربية" التي ستنطلق منتصف شهر أبريل/ نيسان القادم.

ضيق الوقت وعدم استكمال إنجاز البنية المخصّصة لاحتضان هذا الحدث الثقافي وانعكاس سياسة التقشّف التي أعلنت عنها الحكومة مؤخّراً، بعد انهيار أسعار النفط، كلّ ذلك يطرح تساؤلات عن مصير التظاهرة. أما السؤال الأهمّ: هل ستقدّم قيمة مضافة إلى المشهد الثقافي أم ستمرّ كسابقاتها، وتكرّس استمرار سياسة ثقافية عرجاء تعتمد على الكمّ وتتباهى بالأرقام وتهمل المضمون؟

لعلّ جانباً من الإجابة يقدّمه شعار التظاهرة الذي أثار كثيراً من السخرية، بعد أن تبيّن أنه استُنسخ بحذافيره من شعار آخر، وهو ما ينطبق كذلك على شعار احتفالية ستينية الثورة التحريرية الذي اتّضح أنه "مقتبس" أيضًا. هل هو الإفلاس حتّى في ابتكار شعارات أصيلة للتظاهرات الثقافية والاحتفالات الوطنية؟

المساهمون