باريس.. أهلاً أيها الكتاب العربي

باريس.. أهلاً أيها الكتاب العربي

19 يوليو 2014
جدارية لـ "شوف" / تونس
+ الخط -

مقارنةً بسائر عواصم الغرب، لعبت باريس ـ وما زالت ـ دوراً رائداً في نشر الأدب العربي وتكريسه خارج حدود منطقتنا، في عواصم "القرار الأدبي". ومنذ بداية الثمانينات، نشهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد النصوص الأدبية العربية المترجمة إلى لغة موليير داخل كاتالوغات دور النشر الفرنسية، ما يبرر حكماً مجموعة أسئلة، أبرزها: لماذا هذا الإقبال على النصوص العربية، وفي هذه الفترة بالتحديد؟ ووفقاً لأي قنوات وانطلاقاً من أي طاقات أو مصادر تمكّن أدبنا العربي المعاصر من بلوغ مساحته داخل محيط النشر الفرنسي؟ ولماذا قدم إلى باريس عدد مهم من المثقفين العرب خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وعمّا كانوا يبحثون؟

منذ بدايات الثمانينات، توجّه المثقفون العرب بكثافة إلى باريس نظراً إلى ظروف بلدانهم السياسية في الدرجة الأولى. أما لماذا باريس تحديداً، فبسبب جاذبية هذه المدينة والدور الذي لعبته كعاصمة الأدب والفن على مستوى العالم منذ القرن التاسع عشر وحتى نهاية الستينات، ناهيك عن النشاط المعاصر الفريد من نوعه الذي تضطلع به على مستوى ترجمة أدب العالم والتعريف به.

وحين نتمعّن في طرق استقرار هؤلاء المثقفين في باريس، يتبيّن لنا تزاوجٌ مثيرٌ بين الرغبة في الانخراط داخل المحيط الجغرافي الباريسي الشهير فكرياً، وتكرار منطقٍ في التجمّع وعلاماتٍ تعود إلى أماكن استقرار هؤلاء المثقفين السابقة. وفي هذا السياق، يمكن إجراء مقابلة مثيرة بين شارع الحمرا في بيروت بمقاهيه ومكتباته ودور نشره، والحضور الثقافي العربي في الدائرة الخامسة في باريس، وخصوصاً في المنطقة الممتدة من معهد العالم العربي وحتى الحي اللاتيني؛ منطقة تتجمّع فيها المكتبات العربية وتؤدّي دوراً مهماً كوسيط بين العالم العربي والمثقفين العرب في باريس، وبين النصوص الأدبية العربية المعاصرة وسوق النشر الفرنسية.

ولا عجب في هذه المقابلة حين نعرف أن اللبنانيين، والمشرقيين عموماً، هم الذين يمسكون بشبكة المكتبات العربية، وأن دور النشر البيروتية هي التي تلبّي بشكلٍ رئيس حاجات هذه المكتبات من كتب.

أما دور فرنسا الرائد في نشر الأدب الأجنبي فيظهر من خلال عدد العناوين المُترجمة إلى الفرنسية والتي تبلغ نسبتها 20 في المئة من مجموع الإنتاج النشري، في حين لا تتجاوز هذه النسبة خمسة في المئة في بريطانيا أو أميركا. وعلى مستوى الترجمة الأدبية من اللغة العربية، نحصي في فرنسا نحو 70 عنواناً سنوياً في السنوات الخمس الأخيرة، بينما لا يتجاوز هذا العدد في كلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا الثلاثين عنواناً.

وتعود ريادة فرنسا في هذا المجال إلى سببين رئيسيين: اهتمام القارئ الفرنسي بالأدب الأجنبي عموماً، والعلاقات التاريخية التي تربط فرنسا بالضفة الجنوبية من حوض المتوسط. لكن هذا لا يعني أن الأدب العربي الحديث كان دائماً محطّ فضول الفرنسيين. فبين عامَي 1948 و1968، كان معدّل الإصدارات العربية نصَّين كل عام ينتميان غالباً إلى الإرث العربي الكلاسيكي، بينما اختُصر الأدب العربي الحديث بخمسة أسماء هي: محمود تيمور وتوفيق الحكيم وطه حسين وجبران خليل جبران ونجيب محفوظ.

ويجب انتظار فترة السبعينات كي تدخل أسماء عربية جديدة إلى كاتالوغات دور النشر الفرنسية، هي محمود درويش وبدر شاكر السياب وأدونيس ونزار قباني. أما بين عامَي 1979 و1990، فارتفع معدل الإصدارات الأدبية العربية السنوي إلى أكثر من 30 نصاً، قبل أن يبلغ في التسعينات 40 نصاً ويظهر اهتمامٌ متصاعد بالكتّاب الجدد.

ومن بين 300 كاتباً عربياً مُعاصراً نُشر لهم في فرنسا خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، نعثر على 80 كاتباً مُترجَماً إلى الفرنسية مقابل 220 كاتباً فرنكفونياً. ومن بين الكتّاب العرب المترجمين، نجد 12 مغاربياً فقط، بينما يرتفع عدد الكتّاب المغاربة، والجزائريين خصوصاً، إلى 160 داخل الكتّاب الفرنكفونيين.

وخلال الفترة ذاتها، نحصي أكثر من مئة ناشر فرنسي أصدر نصاً عربياً واحداً على الأقل، و500 إصدارٍ لنصوص عربية معاصرة، نسبة دار "أكت سود" منها 28 في المئة، بينما لا تتعدى نسبة دور النشر الفرنسية الكبرى الأخرى 7 في المئة في أفضل الأحوال، مثل "غاليمار" و"سوي" و"مينوي" و"ألبان ميشال" و"فلاماريون". لكن من خلال إيقاع هذه الإصدارات، يظهر اهتمام الناشرين الفرنسيين بالأدب العربي بشكل منتظم.

أما في ما يتعلق بعدد نسخ الإصدارات العربية في فرنسا فتتراوح بين ألفين وخمسة آلاف نسخة لكل نص مترجم وفقاً لشهرة صاحبه. ومن الأرقام التي حصلنا عليها من"المركز الوطني للآداب"، الذي يمنح في فرنسا معظم المساعدات المالية للترجمة، يتبيّن تقدّم اللغة العربية على اللغتين الروسية والصينية وعلى معظم لغات أوروبا الوسطى والشرقية. وعلى مستوى البيع، يؤكّد مدير دار"أكت سود" أن الأدب العربي يباع في المكتبات الفرنسية أكثر من الأدب الألماني وأكثر بكثير من أدب أوروبا الشرقية وروسيا.

ولأن جميع المسؤولين الفرنسيين في ميدان النشر لا يتقنون اللغة العربية، وبالتالي لا قدرة لهم على الاطّلاع مباشرة على الأدب المكتوب بهذه اللغة، تلعب اقتراحات المترجمين دوراً رئيساً في اختيار النصوص المترجمة. وانطلاقاً من لائحة الكتب العربية المترجمة خلال السنوات العشر الأخيرة، يتبيّن أن 58 في المئة من المترجمين هم فرنسيون مقابل 42 في المئة من العرب. وترتفع نسبة المترجمين العرب إلى 62 في المئة حين يتعلق الأمر بالشعر.

وتدل هذه الأرقام على أهمية شبكات تصدير الأدب العربي المعاصر من الشرق إلى فرنسا، ولكن أيضاً على الموقع الهامشي لهذا الأدب داخل دور النشر في فرنسا (3 في المئة من مجموع إصداراتها). وتحتل مصر الموقع الأول على صعيد هوية النصوص المترجمة إلى الفرنسية، يتبعها لبنان، ثم العراق، فسوريا، فالمغرب وفلسطين.

وتجدر الإشارة أخيراً إلى الدور البارز للمترجمين الفرنسيين والعرب في مواكبة الكاتب العربي داخل مشهد النشر الفرنسي وقدراتهم على التحرك والتوجه داخل جغرافيا مختلفة ومتغيّرة، كما تجدر الإشارة إلى النظرة الاستشراقية التي ما زالت تتحكم بطريقة تسويق النص العربي من قبل دور النشر الفرنسية، كما يتجلّى ذلك من خلال خيار الكتب المترجمة وصور أغلفتها، وعناوينها، والتلاعُب أحياناً بالنص و"فرْنسته" كي يروق للقارئ الفرنسي.

المساهمون