تونس: ما بعد بارونات الفنّ

تونس: ما بعد بارونات الفنّ

09 فبراير 2014
+ الخط -

سنة 2011 سنة فارقة في تاريخ الشعب التونسي. دماءٌ كثيرة سُفحت وأعمار قُصفت من أجل الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. مياهٌ كثيرة جرت في القنال. مراراتٌ كثيرة وآمال كبرى.

سقط النظام فانبعثت أشباح الأسئلة القديمة عن قدرة النخب على إحداث قطائع معرفية تعيد النظر في القيم السائدة وأشكال التعبير المكرّسة. أحجارٌ كثيرة سقطت في مياه الثقافة التونسية الراكدة. أسماءٌ بهتت وأخرى تصدّرت المشهد، جمالياتٌ تراجعت، وأخرى انتقلت من الهامش إلى صدارة المشهد.

شعريّا، انكسر السياجُ الذي طالما ضُرب على شعراء العشرية الأخيرة. تقدّم الهامشُ فاكتشف القرّاء أصواتا خطيرة مسكونة بالتجريب والمغامرة، ممسوسة بهاجس تخريب استراتيجيات القراءة وآفاق التقبل. تغيّراتٌ كبيرة مسّت الشكل واالبناء والمعجم والمضامين.

هؤلاء الشعراء هم من أطلق عليهم الشاعر التونسي عبد الفتاح بن حمودة "الحركة الشعرية الجديدة"، ويمثلها سفيان رجب وزياد عبد القادر وأمامة الزاير وخالد الهداجي وصبري الرحموني وصلاح بن عياد وصابر العبسي ونزار الحميدي وأنور اليازيدي وجميل عمامي ومحمد العربي والسيد التوي...

ومن هذه الحركة انبثقت حركة تأسيسية طرحت نفسها في تموز/يوليو 2011 سمّت نفسها "حركة نص"، جمعت كلاّ من صلاح بن عياد وأمامة الزاير وعبد الفتاح بن حمودة وشفيق الطارقي وخالد الهداجي ونزار الحميدي وزياد عبد القادر.

يقول عبد الفتاح بن حمودة في بيانه التأسيسي:

"في (حركة نص)، القصيدة مسمارٌ تعلّقون عليه معاطفكم.

لذلك لا وقت لنا لإلقاء اللّوم على أوّل القرن.

النصّ غابة ونحن فؤوسها.

لا بدّ من العودة إلى الشعر حيث الفكرة أمضى من السيف والمعنى أبلغ من جميع استراتيجيات القراءة".

الفن التشكيلي لم يكن في منأى عن تحطّم السقف فوق رؤوس باروناته. مع 14 كانون الثاني/يناير، استفاق الفنانون على رسومات حائطية تملأ مدينة تونس الكبرى، رسومات شملت أعمدة البنايات وحاويات القمامة وهي تحمل إمضاء "أهل الكهف". صورٌ مطبوعة بلا تكلّف أو بذخ جمالي، بسيطة ولاذعة.

يعرّف "أهل الكهف" أنفسهم بأنهم حركة فنية شبابية تونسية، مناهضة للعولمة والاستشراق، وأنها وليدة رحم الثورة. نقتبس من بيانهم:

"حركة (أهل الكهف) هي مجموعة من الشبكات الإرهابية تمارس وتنشر الإرهاب الإستيتيقي.

(أهل الكهف) ليست تونسية، ولا عربية، ولا من أيّة جنسية. هي وباء ينتشر عبر العدوى.

إذا مررت بشارع ووجدت على جدار إحدى أعمال (أهل الكهف)، ضع إمضاءك. يُقال إنّ الأثر الفني يستمدّ قيمته وسعره من الإمضاء".

بدا كما لو أنّ السقف قد انهار فوق رؤوس الجميع. لغة الأزقة غطّست رأس البلاغة في مائها القذر. لا حدود للقول، لا طهرانية ولا أخلاق. اللغة التي لا تخدش انهارت مثل سقف من القصب الهشّ. الشـِّعر، الذي بات وسيلة تمعن في إبعادنا عن الاخرين، استيقظ في الجهة الأخرى، حيث الأحياء القصديرية والغضب. على ألسنة شياطينها استيقظ الرّاب. كلماتٌ غير معنية بالجماليات وقواعد النحو والصرف. الواقع أكثر قسوة من أن يُراعى لغويّا. يسقط السّلّم الموسيقي، يسقط نظام الأشياء والكلمات، يسقط شارل ازنافور والشيخ إمام وناس الغيوان وأولاد المناجم.

سبق لي أن سألتُ خرّيج سجون عن هؤلاء فأجابني: "إنهم مجرّد بقر. يجدر بهم أن يكفّوا عن الخوار".

صرنا، على الأرجح، مدجّنين إلى ذلك الحدّ الذي يحول بيننا وبين تذوّق موسيقى دي جي كوستا وولد الكانز وحمزاوي وكافون والجنرال وغيرهم من وحوش موسيقى الراب. لقد بتنا مجرّد بقر. من أين لنا إذن أن نتذوّق "حوماني"؟

يلزمنا الكثير من الاشتغال على الاختلاف لمحو آثار النمط الواحد من أذهاننا. الكثير من الاشتغال لفهم الشعر الفائر كالنيران وتذوّق رسومات الحيطان. يلزمنا أن نكتشف الضوء أوّلا قبل أن يصير في وسعنا أن نرفع رؤوسنا فخورين بكوننا نسمع موسيقى الرّاب.

المساهمون