​"لايكا" وأخواتها

​"لايكا" وأخواتها

09 نوفمبر 2014
معتوق أبو راوي / ليبيا
+ الخط -

يستدعي اسم "لايكا" إلى مخيّلتي صورة كلبة ضالّة و"سيّئة السمعة" عاشت في قريتي في نهايات القرن الماضي (تُوحي عبارة القرن الماضي بأن الحكاية ضاربة في أعماق التاريخ).

وكبقيّة أبناء وبنات جنسها في القرية، لم يكن لتلك الكلبة من ميزة تؤهّلها لدخول التاريخ. لكنّها كانت –على ما أذكر- بنّية اللون، ولعلّها كانت جميلة ومغرية وفق مفهوم الكلاب للجمال والإغراء، إذ كانت تجرّ وراءها قافلة منهم حيثما حلّت أو ارتحلت، وكثيرًا ما كان أحدهم يُرى ملتصقًا بها جرّاء إشكال في العملية الجنسية.

طُردت المسكينة إلى الشارع حيث أكملت بقيّة عمرها التعيس، لأن لا أحد يرغب في الاحتفاظ في بيته بكلبة "صرفة" (الصرفة كلمة دارجة نابية تعني من كان متاعه متاحًا للجميع، وتُطلق على الكلاب والبشر معًا، حيث أن أحدهم لُقّب بفلان الصرفة للسبب ذاته).

خلال تلك المرحلة، علّمونا في الابتدائية أن "لايكا" هو اسم أوّل مخلوق يسافر إلى الفضاء الخارجي. علّمونا أيضًا أن ذلك حدث على متن مركبة الفضاء السوفياتية "سبوتنك-2" عام 1957. ولكن بما أن التاريخ المدرسي يكتفي بالأحداث والتواريخ والأرقام المجرّدة، لم يرووا لنا الجانب المأساوي من حكاية تلك الكلبة.

فقدت "لايكا" حياتها بعد ساعات من إطلاق المركبة جرّاء ارتفاع الحرارة داخلها. فأصبحت ليس فقط أوّل مخلوق ثديي يسافر إلى خارج كوكب الأرض، ولكن أيضًا أول ضحية لرغبة البشر في الوصول إلى الفضاء الخارجي، وضحية أخرى من ضحايا معركة إثبات التفوّق بين الأميركيين والسوفيات الذين كانوا يستعدّون لإحياء الذكرى الأربعين للثورة البلشفية.

والغريب أن السبب والتاريخ الحقيقيين لوفاة الكلبة الشهيرة لم يُعلن عنهما إلا بعد خمسة وأربعين عامًا. إذ كان يجب الانتظار حتّى سنة 2002 ليُكشف بأنها ماتت بعد ساعات قليلة من إطلاق المركبة بسبب عطل في نظام التحكّم بالحرارة، وقد كان المعلن طيلة تلك الفترة أنها عاشت لعدّة أيّام بعد ذلك الحدث التاريخي، الذي أثبت لأوّل مرّة إمكانية عيش الإنسان في الفضاء.

والغريب أيضا أن "لايكا" التاريخية عاشت، مثل كلبة القرية، مشرّدة وضالّة، لكن في شوارع موسكو، قبل أن ترسم الأقدار مسارًا آخر لحياتها العدمية، حيث وجدت من ينتشلها من التشرّد ويرسلها في تلك الرحلة الفضائية المثيرة التي كلّفتها حياتها (كان العلماء يختارون الكلاب الضالّة لهذه المهمّات لقدرتها على تحمّل الجوع والظروف المناخية القاسية). ولو أنها أرسلت إلى مأوى للكلاب الضالّة لعاشت في رفاهية، ثم ماتت دون أن يذكرها أحد.

الأمر المبهج هو أن الروس لم يتنكّروا لكلبتهم التي سبقت قرَدة الأميركيين إلى الفضاء، فقد خلّدوا ذكراها بنصب أقيم عام 2008 في منشئة "ستار سيتي" المخصّصة لتدريب روّاد الفضاء. حتّى أن واحدًا من العلماء المسؤولين عن إرسالها إلى الفضاء واسمه "أولغ غازنكو" عبّر عام 1998، في خضّم الجدل الأخلاقي حول إساءة معاملة الحيوانات واستغلالها في الأبحاث العلمية، عن أسفه وندمه الشديدين عن "إرسال كلب ليموت في الفضاء".

كان ذلك بمثابة ردّ اعتبار إلى الكلبة التي ذاع صيتها في الآفاق واعتُبرت ظاهرة عالمية ورمزاً للتضحية الوطنية. ولعلّ هذا هو السرّ في إطلاق اسمها على كثير من الكلبات في العالم، ومنها "لايكا" الجزائرية التي لا يذكرها أحد.


* كاتب من الجزائر

دلالات

المساهمون