يوسف فاضل في "حديث الألِف": لا أكتب عن الأشياء الجميلة

يوسف فاضل في "حديث الألِف": لا أكتب عن الأشياء الجميلة

08 مارس 2024
يوسف فاضل ضيف سمر يزبك في "حديث الألِف" (حسين بيضون/ العربي الجديد)
+ الخط -

حين "طُرد" الفتى يوسف فاضل من فرقة مسرحية صغيرة بسبب افتقاره لموهبة التمثيل، كانت اللحظة الفارقة التي جعلت المسرح يربح كاتباً يأخذ مسافة من الخشبة ويخلق الشخصيات التي عليها أن تؤدّي أفضل ما عندها. إنه مؤمن بأنّ المسرحية لا تكتمل ما لم تكن مُعدّة للخشبة لا للنشر. تحوّلت مفردة "الشخصية" إلى هوس لدى الكاتب المغربي المولود عام 1949.

إنه يريد كتابتها ببطء. في كل يوم ينقر على الكيبورد ما يساوي 500 كلمة. وسيتبنّى هذا الهوس في رواياته الثلاث عشرة حتى الآن، إذ لا يكفّ عن ترديد اعتقاده الإبداعي بأنّ الرواية ليست سوى الشخصيات التي ينبغي تقديمها لتكون واقعية، رغم أنّها ليست واقعية.

وبهذا كان أغلب مدار المحاورة التي عقدَتها سمر يزبك في منتدى "حديث الألِف" مساء أوّل أمس الأربعاء في الدوحة، وطوّفت مع الضيف في منجزه الروائي منذ 1983 حتى 2021، وفي كلّ محطّة يذكّرنا الكاتب بأنه يريد رؤية العالم من خلال شخصيات بما يدور في ذاتها وما بينها، وما تشعر به وما تعانيه وما تقدّمه من حلول وتراجعات وإحباطات وآمال، لا تختلف في نسغها الوجودي عن المسرح أو الباص أو الكباريه أو غرفة السجن.


الشكل

يقول فاضل إنّ الشكل الروائي يهمّه كثيراً، بل يحدّد بالضبط أنّه لا يعثر على الرواية إذا لم يعثر على شكلها. ولنا أن نتخيّل معه ما يصفه بـ"الماعون الروائي" الذي يواصل البحث عنه حتى يبدو مقنعاً ومناسباً، ثم يبدأ الكتابة اليومية دون أن يعرف، وفق إشارته، ما يمكن أن تؤدّي إليه الكتابة، ما دام مطمئنّاً إلى أنه داخل الشكل الذي آمن به.

يريد رؤية العالم من خلال ما تعيشه شخصياته وتشعر به

لذلك حين يتحدث عن كتابته اليومية 500 كلمة بمعدل وسطي، يحكي لجمهور المنتدى عن شعوره بالتوازن اللحظي الذي يعاينه وهو يسير في ظل الشخصيات. إذاً حسب ما يقترح فإنّ "الانتظار والصبر هما أساس الكتابة". الكتابة عنده تحتاج إلى التواضع "لا تتعالَ عليها واتركها تجيء، ودع الجملة تتناسل من ذاتها، واجلس على الكرسي وانتظر".

في هذا المتن الروائي الواسع منذ أربعة عقود، وصل الروائي إلى أن السياسة تكمن في قلب الشخصيات. فهو ليس بحاجة إلى أن يكون الوعي السياسي مباشراً، وإلّا فعلى سبيل المثال فقد كُتبت الكثير من الكتابات عن سنوات "الرصاص والجمر"، والسجون والقتل وتجريف الحياة السياسية منذ الستينيات حتى التسعينيات إبان حكم الملك المغربي الراحل الحسن الثاني.

غير أنّ الشاب وقتذاك، والذي سُجن بين عامي 1973 و1974، بسبب مسرحية سياسية تتصادى مع حرب أكتوبر العربية ضد "إسرائيل"، ثم جرّاء الحملة على الماركسيين وقد كان منتمياً لمنظمة "23 مارس"، قرّر الذهاب إلى بناء العالم الروائي بالخروج التام عن النص التاريخي المسجل.


ورطة السبعينيات

بالخيال يحاجج بأنّ الواقع أكثر سطوعاً، مشيراً إلى أنّه وعى ما سمّاها "ورطة" الكتابة في السبعينيات، وهي أنتجت في ما أنتجته نصوصاً "خالية من المتعة"، ومقابل هذا سعى إلى أن تكون السياسة في الحفر الروائي تحت أرض الشخصيات، بما فيها من تركيب بشري يجعلها تتوحّش مثلاً لأنّها تفكّر، في اكتناز الدراهم، والمجد الوهمي وفي القتل الانتقامي، وفي الخطأ وتبريره، بينما لا تفعل ذلك الكلبة "هندة" التي أنقذت سجيناً دُفن حيّاً كما في رواية "طائر أزرق نادر يحلّق معي" الصادرة عام 2013. إنّها كلبة لا تفكّر بحسابات وقيم البشر.

عرّجت محاورة الضيف على عناوين رواياته، وهي مناسبة مغرية للبحث في منجزات الكاتب، لما تحمله من دلالات وعلاقات بين منتج النصّ ومستقبله وخصوصاً في المرحلة التي تسبق خروج الكتاب إلى العلن. هذه المرحلة التي ينتهي منها يوسف فاضل ويعلن خوفه من العودة إليها خشية أن يُصاب بالإحباط.

سُجن بين 1973 و1974 بسبب مسرحية تتصادى مع حرب أكتوبر

بعض العناوين، كما ذكرت سمر يزبك، تبدو مثل قصيدة هايكو. فـ"قط أبيض جميل يسير معي"، عنوان الرواية الصادرة عام 2011، احتاج إلى طرف غريب عن النص أكثر شجاعة من الكاتب، وهو في هذه الحال القاص المغربي أحمد بوزفور الذي قرأ المخطوط ولمح عبارة في صفحة متأخّرة تقول "التفتُّ ورأيتُ قطّاً أبيض جميلاً يسير إلى جانبي"، فمررها إلى فاضل قائلاً: هذا هو العنوان المطلوب.

أمّا عنوان "طائر أزرق نادر يحلّق معي"، فقد استلهمه من عنوان بوزفور ونسج على منواله. وفي حالة رواية "حياة الفراشات" (2020)، ذكر واقعة العنوان حين لجأ كعادته إلى بضعة أصدقاء للمشورة قبل الإصدار، وكان في نيته أن يكون "الحياة صفقة خاسرة"، غير أنّ الروائي محمد برادة ردّ قاطعاً "هذا العنوان للمنفلوطي"، ويقصد أنّه منفلوطيُّ الهوية، ولأن فاضل مصرّ على إدراج كلمة "الحياة" تمخّضت مفاوضات الأصدقاء عن العنوان الذي نعرفه "حياة الفراشات".


رواية ورواة

وبما هي رواية فإن لها رواة، وهؤلاء في جل المتن السردي عند يوسف فاضل لا بد أن يخوضوا قصة حب. من يقرأ رواياته يستشعر فوراً هذه الخاصية التي يفضّلها لتفتح الباب إلى مساحة السرد. وهو يقول إن الحب أساس، حتى لكأن الأحداث الأخرى تؤثث الفضاء حول هذا الحب الذي لا يكتمل، والذي أجمله ما يقع في البدايات، أو في البحث عن الشق العاطفي الضائع كما في أحد شخوصه وقد أحبّ امرأة لم نرها نحن القرّاء، بينما أراد الروائي (أو أرادت الشخصية) القول إنّ هذا الإنسان كان بأمسّ الحاجة للوهم حتى تستمر حياته.

هذا العام كما أخبرنا فاضل في المنتدى بشكل برقي فإن شهر أيار/ مايو المقبل سيشهد صدور ثلاثية روائية عن "دار المتوسّط" في ميلانو. أمّا إن كانت الأجواء المقبلة ستنتمي إلى أجواء قاتمة لكاتب يقول إنه لا يمكنه الذهاب إلى القبر دون الإدلاء بشهادته، فهو هنا يؤكّد أنه لا يحب الكتابة عن الأشياء الجميلة.

الكتابة بالنسبة إليه موجودة في الخراب واللامكتمل. بالطبع يحرص الكاتب دائماً على القول إنه يكتب من ماضيه ومما حلم به وفكر وقرأ، غير أنّ كلّ هذا الخليط غير كاف، بل ينبغي أن تنسج من حوله واقعك الذي خلقته بيديك.

المساهمون