هموم شعرية: مع فادي طفيلي

هموم شعرية: مع فادي طفيلي

27 سبتمبر 2021
فادي طفيلي
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع شاعر عربي في علاقته مع قارئه وخصوصيات صنعته ولا سيما واقع نشر الشعر العربي المعاصر ومقروئيته. "تعدُّدية الشعر العربي ظلّت أقوى من محدلة السلطة والقمع" يقول الشاعر اللبناني في حديثه إلى "العربي الجديد".


■  من هو قارئك؟ وهل تعتبر نفسك شاعرًا مقروءًا؟
عدا دائرة الأصدقاء والمعارف الذين أشاركهم المجموعات عندما تصدر، أو نصوصاً بعينها عندما أكتبها، صدقًا لا أعرف. بيد أنني أحيانًا أتبلّغ من بعض الأشخاص أنه قرأ هذا النص أو ذاك، أو هذه المجموعة الشعرية أو تلك. كما تصلني من البعض بضع إشارات توحي بذلك. وسرعان ما ينضمّ على الأثر الشخصُ المُبلِغ، أو مُرسل الإشارة، إلى دائرة الأصدقاء والمعارف. لذا يمكن القول هنا إن هذا "القارئ" ينتمي إلى دائرة معيّنة وصغيرة، تشبه الدائرة التي انضممت إليها حين بدأت أقرأ الشعر وأهتم به. شيء يشبه مثلاً "جمعية الشعراء الموتى"، وفق الذاكرة السينمائية. أي مجموعة من الناس قريبة من مزاجي وذائقتي وأهوائي. أكثر من ذلك يصعب التخيّل، سيّما أن سياسة نشر الشعر العربي غائبة تمامًا ولا معطيات عامّة متعلّقة بها.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، هل لديك ناشر وهل هو الناشر الذي تحلم به لشعرك؟
قبل الآونة الأخيرة و"شارع الخامسة صباحًا" مع "دار الجديد"، هذه العلاقة التي تفترضها غائبة تمامًا، أو غير مطروحة أبدًا بما يتعدّى الاتّفاق الأول على النشر. الناشر العربي هو تاجر بالدرجة الأولى، وربما الأخيرة. يريد أن ينتج سلعة مضمونة الأرباح، تُباع بسرعة كي يتخلّص منها، وينتقل إلى غيرها وإلى الزبون التالي. أمّا من ناحية الشعر تحديدًا، فالناشر العربي مهزلة، وعديم الخيال والذوق، ودارٌ من الضحالة الفكرية والفنية. انظرْ إلى الكتاب العربي تفهمْ ما أقول! كسلٌ مرعِب! وهذا الكسل يسري بالتحديد في أكثر دور النشر العربية نجاحًا تجاريًا. بالنسبة لي، وفي بيروت تحديدًا، "دار الجديد" تبقى استثناءً، ودارًا ملهِمة وشريكة في الهمّ والذوق. وثمّة أيضًا بعض الدور القليلة الأخرى، ممّن يحاولون في المضمون والشكل والمعنى، مثل "دار قنبز" (للأطفال والصغار).


■ كيف تنظر إلى النشر في المجلات والجرائد والمواقع؟
أعتقد أنّه مهمّ جدًا إن كانت هذه المجلات والجرائد والمواقع قائمة على سياسات نشرية وتحريرية نقدية مثابرة، تسعى إلى الاكتشاف، والاحتكاك، والخروج من الدوائر الضيقة والبديهية والمستنفدة، ولديها الجرأة على المحاولة والتجريب واللعب الإبداعي اللذيذ. توفُّر هكذا مجلات وجرائد ومواقع برأيي هو الذي يخلق التيارات الكتابية ويطلقها ويبلورها، ويعرّضها للاختبار، ويورّطها بالاستمرارية أو بالإعلان عن النهاية والافتراق، أو ربما بالتشعّب والتحوّل إلى وجهة أخرى. بالنسبة لي هذه الطريقة في النشر لعبت على الدوام دورًا محفّزًا وتوريطيًا في الكتابة والتعلم والتطور والاحتكاك.


■ هل تنشر شعرك على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف ترى تأثير ذلك في كتابتك أو كتابة زملائك ممن ينشرون شعرهم على وسائل التواصل؟
لا، لا أفعل. قمت بذلك مرّتين أو ثلاث. أنا ضد النزعة الصوتية في الشعر، أي شعر الصوت المرتفع الذي يتطلّب نبرة خطابية، وبالتالي الشعر الخطابي. الشعر الذي أكتبه ليس من هذا النمط الشعري. كما أنني لا أحبّ التطفّل على الآخرين، لا في البيت، ولا في المكتب، ولا في المقهى، ولا في أي فضاء عام، واقعيًا كان أو افتراضيًا. مَن أودّه أن يقرأ كتاباتي هو ذاك الذي يذهب إليها بمفرده وبمزاجه الخاص. حتى أنني لا أحب أن أهدي كتابًا لأحد لم يطلبه مني، فما بالك بقصيدة أو بنصّ شعري! بيد أنني لست ضدّ مَن ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي. أحيانًا أقرأ ما ينشر هناك من شعر وأحيانًا لا أقرأ. هذا مرتبط تمامًا بالمزاج العام الموجود على تلك الوسائل، خصوصًا فيسبوك. إذ أحيانًا يكون المزاج هناك محتقنًا ومتفجّرًا ومخيفًا، فلا يمكن للمرء أن يقف فجأة عند نصّ تأملي أو جملة أو ومضة شعرية.


■ من هو قارئ الشعر العربي اليوم في رأيك؟
أحيلك إلى جوابي على السؤال الأول. أعتقد أنه فرد من وسط صغير أو دائرة محدودة، أو "جمعية" ما، بالمعنى الشعري - السينمائي للكلمة. وأستلهم هنا مصطلح "سوسايتي" من فيلم Dead Poets Society، هذا الفيلم الذي قام  بأخذ المصطلح المذكور، الذي لا يعني هنا "مجتمعًا"، بل "جمعية"، أو تعاقدًا بين مجموعة من الاشخاص على برنامج أو نشاط اجتماعي محدّد في الحياة اليومية العادية، ومنحه بُعدًا حلميًا مُعاشًا، لا ملحميًا أسطوريًا وأيديولوجيًا. أعتقد أن "قرّاء" الشعر "الحديث" هُم دائمًا هكذا، جماعة صغيرة. أمّا بالنسبة للشعر العربي تحديدًا، فإنه تاريخيًا كان شفاهيًا وخطابيًا، ينتقل وينتشر سماعيًا مثل الأغاني. من هنا كان حضوره أكبر في ما مضى، وجمهوره أوسع ربما. ومع انتقالنا إلى النصّ المكتوب، ومن ثم الحداثة، راح هذا الجمهور يتقلّص ويتقلّص. القرّاء العرب اليوم عمومًا هم قلّة قليلة، فما بالك بقرّاء الشعر. أحسب أنهم قلّة قليلة جدًّا.


■ هل توافق أن الشعر المترجم من اللغات الأخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، لماذا؟
لا أستطيع أن أوافق على فكرة من دون معطيات محدّدة تتعلق بها. هل هناك دراسة إحصائية أو استطلاعية في هذا الخصوص؟ لا أعتقد. ربما هذه فكرة مستمدّة من الماضي، عندما كان هناك بعض الحراك في ترجمة الشعر وبعض المطبوعات الشعرية التي أخذت على عاتقها هذا الأمر. كما أن هناك بعض المؤشّرات يفصح عنها العاملون بالنشر تفيد بأن الرواية العربية بات لها قرّاء أكثر من الروايات المترجمة إلى العربية. لا أعرف إن كان هذا ينسحب على الشعر، أم أن الأخير نقيض للرواية في مجال الانتشار والقراءة.


■ ما هي مزايا الشعر العربي الأساسية وما هي نقاط ضعفه؟
الشعر العربي الحديث غنيّ بتعدُّدية أصواته وتجاربه، وتلك تعدُّدية ظلت أقوى من محدلة التوتاليتاريّة والسلطويّة والقمعيّة والذكوريّة والأبويّة التي وحّدت العالم العربي كلّه، وفلَحَتْه من أقصاه إلى أقصاه. هذا إنجاز بحسبي، ومزية أساسية من مزايا الشعر العربي. أمّا نقاط الضعف فتتعلّق بقلة المبادرات التي قد تسير بتمردية الشعر العربي، الموجودة بقوّة في نتاجاته، إلى وجهات وإنتاجات قصوى تلائمها وتحاكيها.


■ شاعر عربي تعتقد أنّ من المهم استعادته الآن؟
بسام حجّار. بسام أساسي في الأمر الذي ذكرته للتوّ بجوابي عن السؤال السابق. فهو ثوّر الشعر بأشياء بسيطة جدًا وبعبارات قليلة، ولم يتّكئ بتثويره الشعريّ ذاك على شيء؛ لا على شعوب، ولا على أوطان، ولا على جماهير، ولا على قضايا، ولا على دم، ولا على حروب. لا بل هو أخرج الشعر بطريقة باهرة وإعجازية من كلّ ذلك، وجعله جارحًا وعاريًا وطافحًا بالشعر. وحتى الآن بعد أكثر من عقد على رحيله لم نستعده كما ينبغي. مجموعة أعماله الكاملة التي صدرت تشبه الكتب التجارية للأسف. مجلّدات ثقيلة لا تشبه ما تحويه. أتمنى أن نستعيد بسام بطرق ملهمة ونضرة وجميلة.


■ ما الذي تتمناه للشعر العربي؟
مزيدًا من العزل والتهميش والإقصاء. علّه هناك في الهوامش يقبض على السرّ، ويرتفع، كما ينبغي للشّعر أن يفعل.


بطاقة
شاعر ومترجم لبناني، مواليد بيروت 1972، مقيم في أمستردام . له: "أو أكثر" (دار الانتشار العربي، 2000)؛ "هل جرحت يدك؟ هل جرحت خدّك؟" (دار النهضة العربية، 2008)؛ "شجرة بيضاء تحاول الطيران" (دار الساقي، 2010)؛ "اقتفاء أثر: مرويات في المدينة والأمكنة والأحياء" (أشكال ألوان، 2014)؛ "شارع الخامسة صباحًا" (دار الجديد، 2020).  عمل في ملحق "نوافذ" بالقسم الثقافي لجريدة "المستقبل" اللبنانية، كما أسّس وترأّس تحرير مجلّة "البوابة التاسعة" المختصّة في شؤون المدينة وبُنيانها وعمرانها.

وقفات
التحديثات الحية

المساهمون