هشام جعيّط… المفكّرون الكبار لا يُصنعون تحت الطلب

هشام جعيّط… المفكّرون الكبار لا يُصنعون تحت الطلب

06 يونيو 2021
(هشام جعيّط)
+ الخط -

شيّعت تونس آخر مفكّريها الكبار، هشام جعيّط. هذا المؤرّخ الذي جمع بين اهتمامه بماضي الأمّة وحاضرها من خلال ثقافته الموسوعية التي مكّنته من أن يجرؤ فيعيد النظر في مسائل عديدة كانت تُعتبر من المسلّمات. رغم بلوغه الخامسة والثمانين من العمر، إلّا أنه بقي لصيقاً بعالم المعرفة والكتابة. التقيت به آخر مرّة فوجدته أمام أحد أكشاك ضاحية المرسى ذات التاريخ العريق بصدد شراء صحيفته المفضَّلة منذ أن كان طالباً في باريس؛ "لوموند" التي كان الحبيب بورقيبة يبدأ يومه وهو رئيس بقراءتها.

سألته: لماذا تونس تتعثّر بهذه الطريقة الرديئة وتكاد تنتكس لتعود إلى مرحلة الحكم الفردي في أول فرصة تتوفّر فيها الشروط لأحد المغامرين؟ فكّر قليلاً، ثم علّق على السؤال قائلاً: "نحن نحتاج لفترة طويلة حتى يترسّخ الخيار الديمقراطي وينضج الجميع نخبةً وشعباً".

لم يكن جعيّط سياسياً، وحافظ طيلة مسيرته على مسافة بينه وبين السلطة وعشّاقها. كان غيوراً على استقلاليته، لكنه لم يكن في الآن نفسه بعيداً عن الشأن العام، سواء على الصعيد المحلّي أو الدولي. لا تهمّه الحيثيات وتفاصيل الحكم والحكومات ومناورات الأحزاب ومراكز القوى واللوبيات. كان يتناول القضايا في كلياتها، ويبحث عن محرّكاتها الرئيسية من دون أن يفقد البوصلة أو يرتبط بمصلحة آنية.

اختلف مع بورقيبة حول الهوية وموقع الإسلام والثقافة العربية

علاقته ببورقيبة كانت لافتة للأنظار. كان يرى في هذا الرجُل شخصيةً استثنائية تغلّبت على كلّ من كان حولها أو سعى إلى منافستها، ويعود نجاحه إلى كونه يحمل رؤية أو مشروعاً آمن به وأنجز الكثير منه. لكن جعيّط عارض بورقيبة من موقعه الفكري، فانتقد هيمنته على البلاد وعلى الشأن العام من خلال نزعته الأبوية. وهذا جانب سياسي هام في تلك المرحلة. كما اختلف معه حول مسألة الهوية وموقع الإسلام والثقافة العربية في المشروع الوطني، وانتقده في مقولته الشهيرة "الأمّة التونسية". فكانت تلك جرأةً منه، رغم كونه ليس بالسلفي أو المحافظ الراديكالي.

صحيح أنه ينحدر من عائلة دينية وسياسية عريقة ومحافظة، فجدُّه محمد عبد العزيز جعيّط الذي تولّى وزارة العدل قبل الاستقلال، ثم كان أول من تقلّد منصب الإفتاء في الدولة الوطنية.

لكن هشام جعيّط خرج منذ شبابه عن خطّ الأسرة وطُرُق تفكيرها وحياتها واهتماماتها، وخاض تجارب فكرية وشخصية بعيدة كل البعد عن مرعيات آبائه وأجداده، إلّا أنه لم يفقد البوصلة، حيث بقي متعلّقاً بالعالم الرمزي والتاريخي لتونس، وبالأخص لأمّة العرب والإسلام التي لم يقطع معها كما فعل غيره. من هنا توالت كتبه في نفس الاتجاه وحول نفس المحور: "الكوفة: نشأة المدينة العربية"، و"تأسيس الغرب الإسلامي"، و"الفتنة"، و"في السيرة النبوية".

هيمنت الثقافة الغربية على جزء واسع من النخبة التونسية، ولم يكن جعيّط استثناءً في هذا الأمر. تربّى في فرنسا، وتأثّر بمدارسها وتياراتها. لكنه بقي يعاند مثقّفيها الكبار، ويرفض في أعماقه أن يكون بوقاً من أبواقهم يردّد ما كتبوا، ويعيد إنتاج ما خلّفوه.

استفاد كثيراً في كتاباته التاريخية من تراث المستشرقين، لكنه انتقدهم في العديد من المسائل، وتعامل معهم ليس فقط بندية، وإنما أحياناً بتعالٍ أثار حفيظتهم، وقدح أحياناً في شعورهم بالتفوُّق، واعتبر أن مناهجهم على أهميتها غير قادرة على الغوص في عالم الإسلام ورموزه. وهذه من الحالات النادرة التي يرتقي فيها أحد المفكّرين العرب إلى درجة التعامُل بفوقية وبثقة واسعة مع النخب الغربية.

خرج منذ شبابه عن خط الأسرة وطُرق تفكيرها وحياتها

وجّهنا له ذات مرّة دعوة عندما كنتُ عضواً بمكتب "جمعية الصحافيين". لم يتقيّد بموضوع الندوة، وإنما أخذ الجميع في رحلة عبر التاريخ العريض للحضارة الكونية، لكي يبيّن لنا أن ماضي الإنسانية أكبر بكثير من الغرب، وأنّ اللحظة الراهنة ليست ملكاً للشعوب الغربية، وأنّ الجميع ساهموا، وخاصة المسلمين، كلٌّ بقدرٍ في إحداث التحوُّلات التاريخية الكبرى. لهذا احترم الغربيون هذا التونسي المتمرّد، وتُرجمت كتبه، وتم اعتمادها من قبل كبرى الجامعات العالمية، فغادر المحلية ليعانق الكونية.

هكذا اكتسب هشام جعيّط صفة المفكّر. لقد انتقد ذات مرّة الإعلاميين، واعتبرهم يستعملون مصطلح المفكّر بشكل عشوائي، فيرتكبون خطأً أصبح شائعاً عندما يطلقون هذه الكلمة على من هبّ ودبّ، ولا يُميّزون بين مصطلحَات المفكّر والمثقّف والمتعلّم. ذكر في هذا الشأن أن عدد المفكّرين في العالم وفي التاريخ ليسوا كُثراً، لأن هؤلاء الأفراد يصلون إلى هذه الدرجة عندما يحقّقون إضافة في تاريخ الأفكار، وتصبح لهم بصمة، ويكون لهم منهج يُعتمد للفهم والقراءة وربط الجزئيات بكلياتها.

لعل هذا الامتلاء بالذات، والثقة بالنفس جعلته عرضة لنقد الكثيرين، حتى قالوا إنه يعيش في برج عاجي، وينظر للآخرين وخاصة الجامعيّين في تونس نظرة تصغير وتهميش. انتقدهم ذات مرّة، فقال إن الجامعات التونسية تعاني من كثرة الجهل، فاعتبروا ذلك قدحاً فيهم ودليلاً على إصابته بالغرور والامتلاء "المرضي". لكن نادراً ما تخلّص مفكر كبير من نرجسيته التي تبقى من عوامل الدفع نحو العطاء والتحدّي. لهذا السبب كان طلبته في الجامعة ينتظرونه عندما يتأخّر عن مواعيد المحاضرة، لأنّ الكثير منهم يدرك بأنه لو أضاع الدرس لضاع عنه الكثير من العلم والمعرفة.

المفكرون الكبار لا يُصنعون تحت الطلب، لهذا يشعر الصادقون بأن تونس تعيش اليوم حالة يُتمٍ معرفي حقيقي.


* كاتب من تونس

المساهمون