نجوان درويش وشعرية السؤال الفلسطيني:مختارات بتوقيع عبد اللطيف اللعبي

نجوان درويش وشعرية السؤال الفلسطيني: مختارات بتوقيع عبد اللطيف اللعبي

23 يناير 2024
عبد اللطيف اللَّعبي.. حياة مع القضية الفلسطينية (تصوير: نجوان درويش، 2008)
+ الخط -

شهدت السنوات الأخيرة طفرةً نوعيةً في ترجمة الشعر الفلسطيني. وفي فرنسا، يواصل الشاعر المغربي القدير عبد اللطيف اللَّعبي مجهوداته في تقريب الأصوات الفلسطينية من القارئ الفرانكفوني. فبعد ترجمته كتباً لمحمود درويش وسميح القاسم، ومجموعةً لأشرف فياض، بالإضافة إلى إعداده لثلاث أنطولوجيات للشعر الفلسطيني، آخرها بالتعاون مع ياسين عدنان سنة 2022؛ ها هو يعود مُجدّداً بترجمة مختارات من الأعمال الشعرية لـ نجوان درويش، أحد أبرز شعراء الجيل الجديد، تحت عنوان: "لست شاعراً في غرناطة" (دار نشر "لو كاستور أسترال"، 2023).

يضم الكتاب قصائد مختارة من خمسة دواوين صدرت لدرويش بين 2018 و2021، وتشكّل مدخلاً نموذجياً لتجربته الشعرية. وقد لاقت أعمال نجوان درويش صدى دولياً واسعاً، وحظيت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية من طرف المترجم والأكاديمي الأميركي من أصل مصري كريم جيمس أبوزيد باهتمامٍ ملحوظٍ في الولايات المتحدة.

يغلب على شعر درويش التساؤل بأشكاله المختلفة، وتتميّز معظم قصائده بنوعٍ من القلق والألم الدفينين. تفتتح المجموعة الشعرية بقصيدة "غِناء ليلي" يُسائل فيها الشاعر انتماءاته وآلامه: "يا ربّ لِمَ خَلَقْتني مِنْ أُمّةٍ إِذا سَكِرت / تهرَعُ إِلى مَصَبِّ الدُّموع؟" يتردد هذا السؤال بصيغٍ متنوعةٍ طوال الكتاب، داعياً القارئ إلى التأمل في القضية الفلسطينية انطلاقاً من أسئلةٍ ملحةٍ غالباً ما تبقى بلا إجابات.

مرآة مُركَّبة تعكس بوضوح ما يرتاب الإنسان الفلسطيني

يكتب اللَّعبي في تقديمه للمجموعة أن شعر نجوان درويش يندرج في إطار "فنٍ خامٍ وذي نبرةٍ حادةٍ ينبذ كل أشكال التصنع والتكلّف". وكما يوحي عنوان الكتاب، فإن فلسطين درويش ترتبط بصورة الأندلس المفقودة وتبتعد عنها في الآن الواحد، حيث أن فقدانها يتكرر بشكلٍ مستمرٍ: 

"بَلَدي أَندلسٌ مِنْ قصائدَ وماء
فَقَدْتُها 
وأَفقِدُها
وبالفُقدان تَصيرُ بَلَدي".

إن فلسطين نجوان درويش أولاً وقبل كل شيء غياب وسراب يقودان الشاعر نحو طريق مسدود: "إِنَّها بَلَدٌ جَرَفَتْها الأَمطار / وتَرَكَتني / لا أَنا أَفقِدها / ولا أَنا أَستعيدُها". وفي قصيدة أُخرى: 

"ليس لي بَلَدٌ لأُنفى مِنْها 
ليس لي بَلَدٌ لأرجِع إِليها 
وإِن تَوَقَّفْتُ في بَلَدٍ أَموت". 

أين السبيل إذن للخروج من هذا المأزق؟ لا يعطي نجوان درويش إجابةً قاطعةً لكن قوة شعره تكمن في تقريب المستحيل ومجابهة القدر من خلال تجديد صور الصمود والتعلّق الدائم بالوطن الفلسطيني:"لو قُدِّر لي أَنْ أَعود / فلن أَعودَ تحتَ رايةٍ أُخرى / أُعانقكِ بِيَدينِ مَقطوعتين". وفي انعكاس للموقف مثير للانتباه، يصبح الوطن نفسه مطالباً بمشاركة الشاعر سعيه وآلامه: "دَوْرُكَ الآن/ أَن تَخْرُجَ مُلتاعاً وخائفاً/ لِتَبْحَثَ عَنّي".

إذا تأمل القارئ في شعر درويش، وجد أنه محل توترٍ حادٍ بين الشيء ونقيضه. فالأضداد عنده ليست متعارضة بل تربطها ازدواجية تزيد المأزق تعقيداً وتأزماً: "الأَمَلُ المُوشَّى باليأس /اليأسُ المُقطَّر مِنَ الأمَل". وكما هو الحال غالباً في الشعر الفلسطيني، فإن كتابة نجوان درويش تعجّ بالمفارقات والتناقضات، كما أن الإشارات فيها كثيرة إلى المصير المعقد والوعر للإنسان الفلسطيني: "عِنْدي بَحْرٌ وجَبَل / والذينَ أُحِبُّهُم في المَنْفى". لكن هذا لا يمنع البلاغة الشعرية التي غالباً ما تتبلور في استعارة تبدو بسيطة لكنها تحدث أثراً عميقاً في القصيدة: "مقاعِدُ الأَمل دائماً محجوزة".

الصورة
غلاف الكتاب

وينعكس هذا المزيج من الواقعية الشديدة والخيال المقلق في معالجة الموت. إذ لا مجال في شعر درويش للشفقة أو البؤس، بل غالباً ما تتضمن قصائده سلسلة من الصور الغريبة، وغير المألوفة في بعض الأحيان: جثة دون كفن "يَتَقَطَّرُ مِنْها الكون"، مصلوبون يطلبون قسطاً من الراحة، وأحلام تقود "بالخطأ" إلى الجنّة. وهنا أيضاً، وحدها الاستعارة تكفي لتطويق المأساة وفصل الألم عن الأجساد والأرواح: "ليسَ المَوتُ أكثرَ مِنْ خادمٍ مُوكَلٍ بِلَمِّ الكؤوس وغَسْلِ الشَّراشِف". ويدفع الشاعر بالسخرية إلى درجة تخيّل موته، محاولاً تخمين تاريخ وفاته وتلقي أعماله من طرف الأجيال القادمة. فموت الشاعر ليس مأساةً ولا نهايةً، بل فرصةً أُخرى للإشادة بالانتماء والهوية الجماعية: "أَيّة امرأة تشعر بالكآبة في ذلك المَساء / بإمكانها أنْ تكون أَرملتي".

ومن قصيدة إلى أُخرى، يتجاوز الشاعر عزلته في نبض الروح الفلسطينية والإحساس بالارتباط الذي لا تمسّه المآسي والأحزان:

"لا أَزعُمُ أَنَّ لي أَهلاً 
سِوى الذين فقدتُهُم في الحُروب 
وفقدتُهُم في الهِجران 
وفي جَنّات رضوان وفي الجحيم".

إن وجود الشاعر الفلسطيني، باختصار، يرتبط ارتباطاً غريزياً بوجود شعبه الذي يسكن قصيدته ويتقاسم تجاربه وأسئلته: "إنْ لمْ تَكُن/ فَمَنْ يكون/ …/ هذا سؤالٌ إلى شَعْبي". يعالج شعر درويش العلاقة بين الأنا والنحن، ويسعى بجديةٍ إلى تقليص الفجوة بين الأجيال ورسم طريق بين ظلمات الاضطهاد وفجر المقاومة. يكتب درويش أن كل ولادةٍ، بالنسبة للفلسطينيين، تحمل في طياتها بوادر انهيارٍ جديدٍ لا مفر منه: 

"أَصلاً، نحن جئنا لكي ننهار، 
القلاعُ القديمةُ لَيْسَتْ أَحسنَ مِنّا 
جئنا لِنَنْهار 
وانهَرْنا 
هذا شأنٌ شَخصيّ 
لا يحتاج إِلى جَوقةٍ ونادِباتٍ ومؤرِّخين".

لكن كيف ينهض الإنسان الفلسطيني من هذا الانهيار؟ مرةً أُخرى، لا يقف درويش عند إجابةٍ محددةٍ لكنه يمضي قدماً في مساءلة صمته وتوبيخ الأصدقاء "الحميمين" الذين أصبحوا "أولاد السوق" وأولئك السياسيين "المسنّين" الذين "غسلوا أيديهم من الواقع". ففي شعر درويش تعبيرٌ عميقٌ عن ثقة بالنفس ممزوجة بالمرارة وطريقةٌ راقيةٌ وفصيحة لاحتواء الألم الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، يكتب الشاعر متحدياً العالم الذي يُكثر الحديث عن فلسطين دون فهمها: "لا يُمْكِنُكَ أَنْ تَقولَ عَنْ شَعْبيَ شيئاً لا أَعْرِفُه". صحيحٌ أن الشاعر الذي يحب شعبه ويتقاسم أحزانه قد يجد نفسه مقتاداً إلى "الهاوية"، لكن القصائد، كما يقول درويش، تعيد الدفء بين الأشباح وتعلمهم النسيان والبحث المتجدد عن الذات والوطن.

تحدٍّ لعالم يُكثر الحديثَ عن فلسطين دون فهمها

ولتوسيع فضائه الشعري، يشيد نجوان درويش بشخصياتٍ فلسطينيةٍ مرموقةٍ كالكاتب الكبير جبرا ابراهيم جبرا، مؤلف رواية "البحث عن وليد مسعود" التي ترجمت إلى الفرنسية سنة 1988، والرسام الشهيد ناجي العلي، مبتكر شخصية حنظلة، أيقونة المقاومة والصمود الفلسطيني. يكتب درويش في قصيدة "ناجي":

"كُلَّما انتَصَرْنا
ـ تِلْكَ الانتصارات الصَّغيرة التي لا يَحسبها العالمُ انتصاراتٍ ـ
أَرفعُك في البال ولا أَعْرِفُ ما الذي يَفيضُ في عينيّ.
وعِندما نُهْزَمُ ـ وكثيراً ما نُهْزَمُ هذه الأَيّام ـ
لا أَحَدَ سِواك يَضَعُ يَدَهُ على كتفي". 

وتتخلل المجموعة إشاراتٌ إلى شخصيات أُخرى ككوكب الشرق أُم كلثوم التي كانت "الفلاحةُ المِصريةُ في داخِلِها أَكبرَ مِنْ أَيَّةِ مدينة" والشاعر الفرنسي برنار مازو. وعندما تشير قصيدة "في المطار" إلى رجلٍ من جزيرة المارتينيك ووجهٍ "صار قناعاً" من فرط إخفائه، يستحضر القارئ الطبيب والمناضل فرانتس فانون، وكأن درويش يدعو ضمنياً إلى إعادة التفكير في آثار الاستعمار على الجسد والهوية الفلسطينيين من خلال الإرث الفكري لمؤلف "معذَّبو الأرض".

إن شعر نجوان درويش مرآة مركَّبة تعكس بوضوح ما يرتاب الإنسان الفلسطيني من ضعفٍ وشكٍ وألمٍ، وتوثق لتحوّل كيانه من جرّاء العنف المسلّط عليه وعلى شعبه وأرضه. ففي قصيدة "فوبيا"، مثلاً، يسرد الشاعر المخاوف التي تلاحقه ويلجأ إلى السخرية اللاذعة للحد من آثارها: "سَيَطرُدونني مِنَ الوجود لأَنّني مُنْحازٌ إِلى العَدَم". يجعل إذاً درويش من القصيدة فضاءً لثورةٍ عارمةٍ ضد الوقائع الزائفة والإملاءات الظرفية والشعارات العابرة أو المفرغة من معناها. ففكرة الحرية، مثلاً، "تمثالٌ طينيّ يَتَشقَّقُ تحت شمس الساحل"، في إشارةٍ واضحةٍ إلى انهيار القيم الأخلاقية إزاء القتل والحصار الممنهج الذي يتعرض له الفلسطينيون. وفي نفس الإطار، تضم قصيدة "فبركة" بإيقاعها العَصَبيّ إدانةً شديدة اللهجة لعالمٍ صار كل شيءٍ فيه زائفاً، باستثناء واقع القمع ومحاولات خنق أو مصادرة القضية الفلسطينية: "إنْ أَردتَ أَنْ تعيش لا بُدَّ أَنْ تَتَلطَّخ. هذه أَيضاً نظرية مُفَبْرَكة".

إن الشاعر الفلسطيني، في نظر درويش، بمثابة "حجر الزاوية" الذي "أَهمَلَهُ البنّاؤون"؛ يجسّد التضحية بأشكالها المتعددة، ونفسه مستعدةٌ "دائماً لبَذْلِ دَمِها في سبيلِ أَصغَرِ تُرَّهَة". يتهكم درويش على "جنازة الرأسماليةِ النابضة" ويُفرط في التغنّي بالنسيم الذي يهبّ من الجبل، حالماً ببيتٍ صغيرٍ "عند سفح الكرمل" ونهاية حبٍ تفضي إلى بداية آخر. وفي "قصيدة عَرَضية بسبب امرأة"، يتذكر الشاعر ما يدين به للنساء اللاتي أحبهن وتلك اللاتي ألهمن كلماته وأعطين معنًى لحياته، قبل أن يختم القصيدة بنفس تلك النبرة الساخرة: "مِنَ المُؤسفِ حقّاً أَنَّ الرِّجال وَحْدَهُم سَيَدْفِنونَني".

أحياناً يكون شعر درويش رقيقاً وخفيفاً على القارئ، وأحياناً سوداوياً ولاذعاً في سخريته، لكن القاسم المشترك بين كل قصائده هو الرفض القاطع لكل أشكال التنازل والإذعان. كل ما يهم الشاعر "الوقوف عِنْدَ أوطأ عتبات الشِّعر"، فالشِّعر بمثابة المقبرة والذاكرة، والأرض المسلوبة والأفق المسترجع، والكلمة المصادرة والصمت البليغ. وفي قصيدة "أُم شارل"، يتخيل درويش هذا الحوار الغني بالدلالات بين أُمّه وأُمّ الشاعر الفرنسي صاحب "أزهار الشر": 

"أُمّي وأُم شارل بودلير
تسهران اللّيلةَ مِثْلَ قريبتين في مأَتَم.
تقول لها أُمّي: "شايفة شو سَوّا الشِّعر بولادنا؟!
كان ما أحلاه نجوان وهو صْغير". 
لكِنَّ أُم شارل تبقى صامِتة
مِثْلَ آخِرِ شَوكةٍ في حديقة الشَّر".


* كاتب وناقد مغربي، أستاذ في قسم الآداب بجامعة "شيكاغو". نُشرت النسخة الفرنسية للمقال في مجلّة En attendant Nadeau

المساهمون