مئوية الجمهورية الكمالية: كيف عبّر المهزومون عن انتصارهم؟

مئوية الجمهورية الكمالية: كيف عبّر المهزومون عن انتصارهم؟

30 اغسطس 2023
فتاة تحمل صورة أتاتورك، خلال مسيرة بمناسبة الذكرى 93 لـ "يوم الجمهورية التركية" (Getty)
+ الخط -

في هذه الأيام، أخذت مئوية معاهدة لوزان وما تمخّض عنها (الجمهورية التركية التي حلّت محلّ السلطنة المهزومة) بعض ما تستحقّه على صفحات "العربي الجديد"، ومن ذلك السجالات حول مصطفى كمال أتاتورك المهزوم - المنتصر الذي أعاد إلى تركيا حدودها الحالية (باستثناء لواء الإسكندرون الذي ضُمّ إليها بعد رحيله في 29 حزيران/ يونيو 1939)، ورسّخ نموذجاً جديداً لمفهوم "الدولة المتجانسة" من الناحية الإثنية - الثقافية، عوضاً عن السلطنة التي كانت تشمل الإثنيات والثقافات المختلفة.

وفي الواقع، إنّ ثنائية المهزوم/ المنتصر لا تُميّز أتاتورك فقط، بل لدينا قادةٌ آخرون من بلدان مهزومة أو منتصرة في الحرب أُعجبوا بما حقّقه من تحدٍّ للمعاهدات المهينة التي فُرضت عليهم من "الدول المنتصرة"، وبترسيخه للدولة القومية التي تقوم على القومية الإثنية، وليس على المواطنة المتعدّدة في أصولها الإثنية والثقافية، واستلهموا ذلك وطبّقوه؛ مثل هتلر وموسوليني، كما أشار إلى ذلك المؤرّخ الألماني روبرت غِرواث R.Gerwarth في كتابه المهمّ "المهزومون: لماذا فشلت الحرب العالمية الأُولى في الانتهاء"، والذي صدر بالإنكليزية في 2016.

وربما المثير هنا أكثر إعجاب إلفثيريوس فينزيلوس الذي رشّح أتاتورك لـ "جائزة نوبل"، لأنّ فينزيلوس كان رئيس الحكومة اليونانية الذي عارض حياد الملك ودفع اليونان للتحالف مع دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية وغيرها) ضدّ الإمبراطوريات الثلاث (الألمانية والنمساوية والعثمانية) في 1916، لكي ينال ما كان يحلم به: تحويل اليونان إلى دولة كبرى تشمل غرب الأناضول وتراقيا الشرقية، لتطلّ بذلك على المضائق و"القسطنطينية" التي بقيت تُسمّى كذلك على أمل استردادها.

كان فينزيلوس (1864 - 1936) قد سبق أتاتورك (1881 - 1938) في تبنّيه للقومية الإثنية التي تستلهم خرائط القرون الوسطى لاستعادة حدود الماضي، بغضّ النظر عن التغيّرات السكّانية والثقافية التي حدثت في القرون السالفة، ولا ترى مشكلة في وجود سكّان مختلفين إثنياً ودينياً ضمن الحدود الجديدة لـ"الدولة القومية" الجديدة، لأنّ التهجير القسري أو التذويب التدريجي لهم يحلّ المشكلة مع مرور الزمن.

ونظراً إلى أنّ فينزيلوس كان ينتظر، كغيره من الحلفاء (بريطانيا وفرنسا والولايات المتّحدة الأميركية)، أن يكافئوه على معارضته للملك والانضمام إليهم في الحرب العالمية الأولى ضدّ دول الوسط التي يريد أن يتوسّع على حسابها، فقد وجدَ في المنتصر - المنهزم ديفيد لويد جورج؛ رئيس الوزراء البريطاني (1863 - 1945)، الذي انتصر في الحرب العالمية الأُولى وفشلَ في احتواء مقاومة أتاتورك لمخطَّطات بريطانيا، مَن يُحرّضه على القيام بإنزال عسكري في إزمير في 15 أيلول/ سبتمبر 1919 وضمّ الأناضول وتراقيا الشرقية، لكي تتوسّع اليونان من الجنوب والشمال، وتطلّ على المضائق التي كانت مهمّة لبريطانيا.

انتزَعت تركيا حدودها الحالية وتحوّلت من مهزوم إلى منتصر

ومع أنه وُجد من يحذّر فينزيلوس من هذه المغامرة، سواء في بريطانيا (وزير الخارجية اللورد كيرزون ورئيس هيئة الأركان الجنرال هنري ولسون) أو في اليونان (الجنرال ميتاكساس الذي حكم البلاد بين 1936 و1941)؛ إلّا أنّه انجرّ وراء عرض لويد جورج وأرسل الجيش اليوناني لكي يحتلّ إزمير ويتوغّل في الأناضول، ليتحوّل ذلك إلى كارثة عسكرية وهزيمة منكرة أجبرت الجيش اليوناني على الانسحاب وطلب الهدنة التي وُقّعت في11 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1922، والتي أدّت المفاوضات بعدها إلى التوقيع على معاهدة لوزان في 23 تمّوز/ يوليو 1923، والتي انتزَعت فيها تركيا حدودها الحالية وتحوّلت من دولة مهزومة إلى دولة منتصرة.

وفي هذا السياق، كانت هزيمة اليونان مضاعَفةً، لأنّ هذا الإنزال العسكري والتوغّل في الأناضول، وما رافقه من عنف متبادَل، إثني-ديني، بين الطرفين، أدّى إلى تفريغ تركيا الجديدة من الوجود التاريخي للمكوّن غير التركي (الأرمني - اليوناني الأرثوذكسي) وإغراق اليونان بموجات من المهجَّرين أو المهاجرين تجاوزت مليون شخص.

إلّا أنّ هذه الكارثة البشرية التي رمت بمئات الألوف إلى قارّة أُخرى (اليونان)، لا تربطهم بها ما كان يربطهم بالأناضول من جذور تاريخية حقّقت "نصراً" للطرفَين المتحاربَين: يونان إلفثيريوس فينزيلوس وتركيا مصطفى كمال أتاتورك؛ فقد أدّت هذه الكارثة إلى تعزيز الوجود اليوناني الأرثوذكسي في شمال اليونان الذي ضمّته خلال حرب البلقان (1912 - 1913)، وبذلك تحوّلت سالونيك من مدينة كوسموبوليتية (يهودية مسلمة أرثوذكسية) إلى "مدينة يونانية" تعكس ما تغيّر حولها من المناطق التي كانت يُفترض أن تؤول إلى بلغاريا بعد حرب البلقان.

ولذلك عرض فينزيلوس على "عدوّه" أتاتورك توقيع معاهدة لـ "تبادل السكّان" في لوزان (30 كانون الثاني/ يناير 1923) لتقنين ما قد حدث على الأرض في اليونان التي أصبحت بغالبية يونانية أرثوذكسية كبيرة في حدودها المنكمشة، بعد أن تخلّصت في المقابل من المسلمين الذين ورثتهم من الحُكم العثماني ولا يمكن تذويبهم في البوتقة اليونانية بسبب الدين (السلاف البلغار أو البوماك والألبان والغجر).

كان هذا منسجماً مع مفهوم أتاتورك لـ"الجمهورية التركية" التي أُعلنت في 29 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1923، أي بعد عدّة أسابيع من توقيع معاهدة لوزان، بكونها "تركيا للأتراك"، التي رحّبت بتهجير أو هجرة ما بقي في الأتراك أو "مَن في حُكمهم" في دول البلقان الأُخرى التي قامت على القومية الإثنية؛ مثل بلغاريا ورومانيا وصربيا الموسَّعة ("مملكة الصرب والكروات والسلوفين" التي كانت مكافأةَ الحلفاء لصربيا مقابل تضحياتها في الحرب العالمية الأُولى).

وفي هذا السياق، عَقدت حكومة أنقرة عدّة اتفاقيات مع هذه الدول لتسهيل هجرة الأتراك أو "من في حُكمهم"، والمقصود هنا المسلمون البلغار والبشناق والألبان الذين ليسوا أتراكاً ولا يَعرفون اللغة التركية، ولكنّهم "ورثوا ثقافة عثمانية". وهكذا هُجّر أو هاجر مئات الألوف من هؤلاء الأتراك و"مَن في حُكمهم" إلى تركيا خلال حُكم أتاتورك أو بعد وفاته (1938) استكمالاً لسياسته أو رؤيته لتركيا كدولة قومية للأتراك.

ويلاحَظ هنا في ما يتعلّق بهؤلاء المهجَّرين أو المهاجرين من البلقان أنه تمّ توجيه توطين معظمهم في غرب الأناضول الذي خلا من اليونانيّين، وخاصّةً في إزمير وبورصة وجوارها، وفي قلب الأناضول، مقابل المكوّن الكردي لتعزيز الوجود التركي هناك.

ومن ناحية أُخرى، فقد كان رفض أتاتورك لمعاهدة سيفر المذلّة وتحدّيه لـ"الدول المنتصرة" في الحرب العالمية (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) يُمثّل إلهاماً قوياً للقوى القومية الصاعدة في إيطاليا (الفاشية)، وألمانيا (النازية)، وبلغاريا وهنغاريا (اللتين تأثّرتا بصعود الفاشية والنازية)، والتي سعت إلى تحدي "المعاهدات المذلّة" التي وُقّعت في فرساي 1919-1920.

ألهم رفضُ أتاتورك معاهدة سيفر القوى القومية في أوروبا

صحيحٌ أنّ إيطاليا كانت تُعتَبر من "الدول المنتصرة"، إلّا أنّ الموجة القومية الصاعدة كانت تأخذ على حكومات 1918-1920 أنّها لم تحصد ما وُعدت به من الحلفاء في البلقان وفي غرب الأناضول، ومن هنا طالبت هذه القوى الصاعدة بـ"مراجعة المعاهدات" التي وُقّعت مع الحلفاء. ومن هنا لا يُعدّ من المستغرب أن يُعجَب موسوليني وهتلر بما حقّقه أتاتورك في تركيا من تجانُس كنموذج لـ "الدولة القومية" التي تقوم على القومية الإثنية.

بعد مئة عام من تأسيس "الجمهورية الكمالية"، تُطرَح الآن أسئلة مشروعة عما تحقّق وعما لم يتحقّق؛ مثل الوعد بالحُكم الذاتي للأكراد الذي صرّح به أتاتورك في مؤتمر صحافي في 16 كانون الثاني/ يناير 1923، عما تغيّر منذ الابتعاد التدريجي عن الكمالية في الاقتصاد أوّلاً خلال عهد تورغوت أوزال (1983 - 1993)، أو في مجال الدين والتساهل مع المكوّنات الكردية والبشناقية والبلغارية والألبانية في استخدام لغاتها القومية في الإعلام، وحتى كلغات اختيارية في المدارس الحكومية بعد وصول "حزب العدالة والتنمية" بقيادة رجب طيّب أردوغان إلى الحكم في 2002.

ولكن، قد يبدو من المفيد أن تسترشد تركيا في قرنها الجديد بما حدث في جمهورية مقدونيا الشمالية، التي احتفظت بالبيت الذي وُلد فيه علي رضا أفندي؛ والد مصطفى كمال أتاتورك، عندما أدخلت تعديلات دستورية خلال 2001 - 2019 لم تعُد معها الدولة "مملوكة" لمكوّن واحد، بل دولةً المواطنين المتساوين، والتي تشمل أيضاً الأتراك الذين يمثّلون حوالي 4% من السكّان ويتمتّعون بحقّ التعلّم بالتركية ونشر الصحف والكتب فيها، وهو الأمر الذي تدعمه تركيا مادياً ومعنوياً وتستثمر فيه.
في مثل تركيا الجديدة، إذا صحّ القول، التي اهتمّت الآن فجأةً بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي مع أنها دولة مرشَّحة منذ 2005، يُفترض أن تستعدّ حسب المعايير الأوربية لمنح المكوّنات المختلفة، التي حاولت الجمهورية الكمالية كبتها بكلّ الوسائل، ما تستحقّه من حقوق، حتى لا يتطلّع الأكراد إلى الجوار (سورية والعراق) لاستلهام أفكار عابرة للحدود.

وكما مارست تركيا حقّ الفيتو ضدّ انضمام السويد إلى "النيتو" واستفادت منه، فقد مارست بلغاريا حقّ الفيتو ضدّ انضمام جمهورية مقدونيا الشمالية إلى الاتحاد الأوربي، حتى أرغمتها في 2022 على إدخال تعديل على دستورها يُذكَر فيه البلغار ضمن مكوّنات هذه الدولة. وبهذا المعنى، تكون تركيا الجديدة جاذبةً أكثر في "شرق أوسط" غير آمن ومخترَق من جهات عديدة.

بهذه المناسبة، كنت أتمنّى، في دخول الجمهورية التركية في قرنها الجديد، أن تكون قد صدرت الطبعة العربية من كتاب "المهزومون: لماذا أخفقت الحرب العالمية الأُولى في الانتهاء" لـ روبرت غِروارث، الذي قَدّم، عند صدوره في 2016، رؤيةً مختلفة عن عشر سنوات من الحروب المتداخلة (من حرب البلقان 1912 إلى هدنة مودانيا 1922 التي أنهت الحرب بين اليونان وتركيا، وليس سنوات الحرب العالمية الأُولى فقط) تحوّلت فيها تركيا مرّتَين من دولة مهزومة إلى دولة منتصرة: 1913 و1923، ولكن بثمن كبير تحمّلته عدّة أجيال.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون