لو كان ليوم أمس أُذنان

لو كان ليوم أمس أُذنان

17 ابريل 2021
صورة جوّية لمدينة القدس المحتلة عام 2005 (Getty)
+ الخط -

أن تعيش وسط سبعين مريضاً بالسرطان، أن تعرف تفاصيل يومياتهم مع المرض، أن تُصاحبهم وتُرافقهم على مدار اليوم والساعة، ألّا يغيبوا عن ناظرَيك سوى في وقت النوم، أن تُحسّ بهم كما تحسّ بيديك ومعدتك ورجليك، أن تُحبّهم، أن تفهمهم،  وفوق ذلك أن تُودّع بعضهم إذ يموت... يا لها من تجربة، يا له من جوّ.

■ ■ ■

أُفكّر فيهم: في الدهاليز والكهوف التي يعبرونها كلَّ ليلة. أُفكّر فيهم: في الأعماق والطوايا التي يصلونها كل نهار. أُفكّر فيه، وفي تاريخه: إله المغيّبين ذاك. أُفكّر فيّ: ماضيّ ومستقبلي. كم أودّ لو أُرجع بطاقتي منذ الآن. الواحدة ولا ينامون. الثالثة ولا ينامون. الخامسة ولا ينامون. فكيف لكلبٍ أن ينام.

■ ■ ■

مساء هذا اليوم، كنتُ جالساً في الصالة تحت مع لؤي ريان، ودخل عليكم جارك الستيني أبو رامي، كلمك وتلعثم، فحدست شرّاً، قمتُ سألته، ولِمَ تحتج لجواب. احتضنته وقبّلت جبينه ورأسه ويديه: البقية في حياتك، يسلم خاطرك. سأصعد وأخبرهم. فرجاك أنه متعب، ولا داعي. صعد الكهل المسكين، ونام ليلته، كما لا يعرف ولن يعرف أحد كيف قضاها. أخبرتهم كلّهم. ورجوتهم ألّا يُثقلوا عليه، فالصباح رباح. وفي الصباح، قدّم الجميع تعازيهم الصادقة، وسط بحر من الكآبة والوجوم، لتخرجوا جميعاً، من عليه جلسة كيماوي أو إشعاع، ومن لا جلسة له، فتذهبون لباحة المطلع، وتودّعون أخاه الشيخ ، محمولاً في سيارة إسعاف، تحت سماء معتمة ومطر خفيف، لمثواه الأخير في غزة. مع السلامة، مع السلامة يا طيب.. وتجتاز الإسعاف بوابة المشفى الخارجية، وبها اثنان: الرجل وجثة، بينما دخلاها قبل أقل من شهر: اثنان، يمشيان على أقدامهما: ويضحكان معنا، ويشاركاننا كل تفاصيلنا الصغيرة. فيا لها من حياة، ويا له من مصير.

■ ■ ■

والله لو كان في يدك، لجعلتُ هذا العالم أقل قساوةً وضراوةً. لكنّ القدر والأنظمة والمجتمع لا يقبلون هذا التغيير والتبديل، ولا يقبلون أن يخربش عليهم واحدٌ من ورائهم.

■ ■ ■

كم تشعر بالوهن الجسدي، وأنت في معمعان هذه الأجواء والهلاوس السوداء. لقد هزمك جوُّ المرض بالضربة القاضية. قدماك تجرّهما جرّاً، ورأسك نهب الصداع. ورغم تظاهرك بالتماسك، خارجياً على الأقل، إلا أنك محبطٌ وواصلٌ إلى حواف السوداوية والعدم الصريح. حتى أن العالم، الآن، لم يعد في نظرك يتكوّن إلا من المرضى والمرشحين للمرض. ولا مكان فيه لطفولة بريئة أو كهولة نبيلة إلخ إلخ من هذه الهلاوس اليوتوبية ذات المنشأ الريفي، التي لا تعيش سوى في رؤوس البلهاء وصغار الشعراء.

■ ■ ■

لو كان ليوم أمس  - يوم المصائب المتتالية منذ الصباح  - أُذنان، لفركتهما بحصوتيْن، كما كان يفعل معنا أساتذتنا في المرحلتين الابتدائية والإعدادية. لكنه مع شديد الأسف، لا يملك هاتين الأذنين، لأنه يوم واقعي، وليس مثل أربعاء الروائي يوسّا، يوماً روائياً شهيراً، يحمل عنوان أحد فصول روايته "امتداح الخالة".

■ ■ ■

إنكَ، بلغة أحد أبطال يوسّا، دنيوي إلى أقصى الحدود، ولكن ثقافياً وليس في الواقع. ولا أظن أن ثمة أديباً هو هكذا في الواقع، فطول استخدام الكلمات، وطول العشرة معها، يجعلان الأديب، أقرب إلى الصوفي منه إلى كلب الدنيا. ومع أنك علماني تماماً، وتكره ما يُشاع ويُقال عن الصوفية، حتى أنك لا تحتمل مجرّد القراءة عنها، وذلك لشيوعها وابتذالها عربياً، وبالذات في النصف الأخير من القرن، إلا أنك تومن بأن طول العشرة مع الكلمات يغيّر ويبدّل من الشخص والشخصية. إن غالبية من لهم علاقة فيزيقية مع الكلمة، يصبحون، أشفَّ وأنقى من كبار المتصوّفين! لمَ يحدث ذلك؟ لا تعرف على وجه التحديد والتأكيد. إنما هذا ما يحدث لك ومعك على الأقل، ومع غيرك على العموم.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا، والنص من يومياته في القدس المحتلة عام 2009

موقف
التحديثات الحية

المساهمون