لهواري عدي.. المجتمعات المغاربية في فكر غلنر وغيرتز

لهواري عدي.. المجتمعات المغاربية في فكر غلنر وغيرتز

09 مايو 2023
(مقطع من عمل للفنان الجزائري رشيد قريشي)
+ الخط -

ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثاً كتاب "عالِما أنثروبولوجيا في المغرب الكبير: إرنست غلنر - كليفورد غيرتز"، من تأليف عالم الاجتماع الجزائري هواري عدي، وبترجمة نوري دريس.

ألَّف لهواري عدي هذا الكتاب بعد صلة عمل مع الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتز (1926 – 2006)، استمرت عامًا كاملًا، في "معهد الدراسات المتقدمة" ببرنستون؛ ما يُضفي على مادة الكتاب ظلالًا من الواقعية والمصداقية، ويضيف تعمّقه في قراءة فكر الأنثروبولوجي البريطاني التشيكي إرنست غلنر (1925 – 1995) إحاطة بالموضوع، فلم تفقد نصوص هذين الأنثروبولوجييْن أهميتها رغم تقدّم الزمن، لأنّ موضوعها كان النزعات الأصيلة في المجتمعات المغاربية، مثل الإسلام واللغة والأمازيغية والسلطة. وجاءت ثالثة زوايا مثلث الفائدة المرجوّة في عرْض المؤلف مقاطع متفرقة من كتابه على طلابه وتدوينه تفاعلاتهم المهمة التي يصرّح بأنّه استفاد منها في تحسين النص النهائي.

يستعرض الفصل الأول أنثروبولوجيا خمسينيات القرن العشرين في المغرب الكبير، حين كانت إثنوغرافيا الفرنكوفون، وجُلُّ كتّابها من "الإثنوغرافيين العسكريين"، تزدري شعوبَه وترى فيه جزءًا من الإمبراطورية الفرنسية، وتقسِّم الإنسانية إلى مجتمعات متحضّرة وأخرى متوحّشة يجب حكمها بقوانين استثنائية ولو كانت تتعارض مع القانون الفرنسي، وخير من كان يمثلها مونتان وسرفييه، وهي نظرة انقطعت مع كتابات كل من: جاك بيرك الذي طوّر مقاربة جديدة انتقد فيها 125 عامًا من كتابات المغرب السوسيولوجية، ودعا إلى إدماج فرنسا المغربَ في حضارتها، وتحرير دول العالم الثالث من الاستعمار؛ وبيار بورديو الذي بيَّن في دراساته مجتمعَ القبائل الآثارَ السلبية للاستعمار وتدميره المجتمعات المستعمَرة ومنعها من الانخراط في الحداثة الأوروبية، وهي حداثة انتقدها فلسفيًّا في كتاباته.

يشير الكتاب إلى أن نصوص هذين الأنثروبولوجييْن لم تفقد أهميتها رغم تقدم الزمن

ويظهر الفصل الثاني التحولَ النوعي في كتابات غلنر وغيرتز نحو زوايا كانت من التابوات قبلهما، وأهمها خوضهما الحديثَ عن الإسلام والجماعات في المغرب. وبرغم عملهما كلًّا على حدة وبخلفيات فيبر ودوركايم المتباينة، فإنَّ نتائج أعمالهما كانت ذات صدى إيجابي لدى الباحثين الأميركيين والأوروبيين المهتمين بالمنطقة، فقد فتحا الباب أمام إشكاليّة بناء مؤسّسات حديثة في المغرب كان مجرد ذكرها من المحرمات، فشهد غلنر نهاية نظام الحماية الفرنسية، وعاصر غيرتز عصر ما بعد الاستقلال وتوتراته، فعقد مقارنة بين مسلمي المغرب وأندونيسيا التي عمل فيها ردحًا من حياته، وتحوّل تفاؤل سلفه بالحركة القومية المغربية لديه إلى تشاؤم.

ويتناول الفصل الثالث مقاربة غلنر الثقافة الأمازيغية، ورأيّه في أن انخراط الأمازيغ والعرب في قومية ذات أسس ثقافية عربية يشكّل سلطةً تستحيل مقاومتُها. ويعرض الفصل المشكلات الإثنية المستوحاة من الكتابات العسكرية الفرنسية، كالمطالبة باللغة الأمازيغية في الفضاء العام والإدارة، وهي مطلب مستحدث لم يكن مطروحًا قبل الاستعمار، والحديث عن تعارض "العرب / الأمازيغ"، و"العلماء / الأولياء"، و"الفقه / العرف"، معتبرًا أنّ "علماء الدين"، سكان المدن، الضمان الديني للدولة المركزية بعد أن منحهم الاستعمار وسائل تحييد خطر القبائل بالتصدي للثقافة الأمازيغية.

الصورة
غلاف الكتاب

ويتعرض الفصل الرابع لانقسامية القبائل داخليًّا وصولًا إلى القومية خارجيًّا. و"الانقسامية" تعني امتلاك القبائل الهامشية نظامًا داخليًّا يداني ما تقدّمه السلطة المركزيّة، وبناءً عليه تُعقد التحالفات وتُفَكّ بين هذه القبائل في ما يشبه النظام السياسي "اللادولتي" القائم على التضامن بين الإخوة وأبناء العمومة ضد طرف ثالث، الذي تخضعُ له الجماعات عند اندلاع الصراعات التي لا يخفف وهجها سوى وجود أنساب أكثر في القبيلة المواجهة. ويعتقد غلنر أنَّ الانقسامية بديل من الدولة المركزية بوصفها تمثلات السكان المحليين أنفسَهم، أما المنتقدون لها فكثرٌ، وتناول الفصل منها بالشرح انتقادي إمريز بيترز وعبد الله حمودي.

وخصص لهواري عدي الفصل الخامس للحديث عن أنثروبولوجية غلنر الإسلامية المبنية على التعارض بين العلماء والأولياء، والتي شبّه فيها علماء المدن المسلمين بالبروتستانت، نظرًا إلى عدم توسيط بشر بين الناس والله، معتبرًا الأولياء أصحاب رهبانية تتنافى مع القرآن. كما أقام غلنر علاقة بين التوحيد الإبراهيمي والنظام الأفلاطوني، وهو ما لم يوافق عليه المؤلف، واعتبر غلنر أن طهرانية العلماء لا تُقصي البعد الصوفي الذي يُعلي شأن الآخرة، سوى لدى الطهرانية الوهابية التي اعتبرت الصوفية وثنية. ورأى لهواري أنَّ بإمكان البروتستانتية إطلاق العلّمنة إذا تمَّ تجاهل ما يبرّر الطهرانية فيها.

درس إرنست غلنر وكليفورد غيرتز النزعات الأصيلة في المجتمعات المغربية، مثل الإسلام واللغة والأمازيغية والسلطة

وفي الفصل السادس، يرد رأي غلنر في اعتبار أن المجتمع المدني، وفق نموذج آدم فرغسون، هَزَمَ أحدَ خصميه وهو الماركسية، بينما لا يزال الخصم الآخر، وهو الإسلام، يقاوم على رغم الأنظمة التسلطية التي تهيمن على بلدانه، وأن الإسلام ما بعد الانقسامي لم يبنِ المجتمع المدني، ولم يستطع بناء فضاء حريات مدنية إلا أوروبا الأنوار. 

ويدرس الفصل السابع الطرقية والسلفية والإسلاموية في المغرب الكبير بعيون كليفورد غيرتز المتخصّص بالشأن الأندونيسي والمنتقل إلى بحث أحوال المجتمعات المغاربية، والذي اعتبر أنَّ الحديث عن عودة الأديان ينمّ عن ضعف نظر، فهذه المجتمعات أنتجت من القرآن إسلامًا أمازيغيًّا هو إسلام الأولياء، عاقدًا مقارنة بين نمطي التصوّف الأندونيسي والمغاربي. 

وتضمّن الفصل الثامن مبحثًا لغويًّا قارَبَ فيه غيرتز أنثروبولوجيًّا موضوع اللغة والتبادلات اللغوية والثقافة في المغرب الكبير على وحي قراءاته كتابات بيرس وأوستن وسيرل وفيتغنشتاين اللغوية، معتبرًا أنَّ الثقافة تنتج من مخيال يجد في اللغة العربية سنده، من حيث بنيتها اللسانية الأصيلة وحقلها الدلالي الواسع. ويعقد غيرتز بحثًا لغويًّا حول كلمة "عقل" ومشتقاتها في اللغة العربية، وكذلك "الكلمة" (parole) وحقلها الدلالي، وكلمة "صِدْق" وتفرعاتها، كما يعتبر الشعر العربي فنًّا شعبيًّا، وأن اللغة وسيلة منتجة لرموز يتم إيصالها بالكلام، عادّا أحقية كلام هايدغر أن الإنسان يسكن داخل لغته.

وخُصص الفصل التاسع لبحث نظرية تساوي الثقافات والقيم، والمعيار الثقافي الكوني الذي يمكّن من قياس تخلّف الجماعات الإنسانية وتقدّمها، ويخالف الكاتب الاعتقاد بمناسبة ثقافة واحدة لكل البشر، ويعتبر أنَّ الأنثروبولوجيا نسبية في نهجها القومي وكونية في جوهر ما تدعو إليه، ويورد وصف غلنر لنسبية المعرفة بـ "الحماقة". 

أمَّا الفصل العاشر (الأخير) فيتعرّض لذكر الرمز والثقافة الأنثروبولوجيين لدى غيرتز، مشيرًا إلى أن الأخير اعتمد في دراسة إثنوغرافيا فكر الجماعات الاجتماعية ومخيالها على الموقف النظري الذي يَعتبر أنَّ نشاط الفكر الإنساني يحتاج إلى مقاربة تختلفُ عن تلك التي تُدرس بها الظواهر الطبيعية، وهو ما يوحي، من وجهة النظر هذه، أن غيرتز هو كانطي جديد، حينما يشير إلى أن الرمزية لا هي بتمثلات، ولا هي انعكاس لجزء من النظام الاجتماعي: إنّها النظام الاجتماعي نفسه. هذا المنظور الرمزي يناقضه في الآن نفسه الموقف الشكلي لغيرتز الذي بقي مُتمسكًا بالتقسيم البارسونزي بين السيكولوجي والاجتماعي والثقافي.

المساهمون