كُرسيّ على سُور عَكّا

كُرسيّ على سُور عَكّا

14 مايو 2021
بحر عكّا وجزء من سورِها (صهيب شواهنة)
+ الخط -

موج عَكّا

ماذا يَغْسِلُ المَوْجُ
بِكُلِّ هَذهِ الرَّغْوةِ؟ الشَّراشِفَ اللامرئيَّةَ لِلآلِهَة؟

صَعْبٌ أَنْ أُصَدِّقَ أَنَّ كُلَّ هَذهِ الحَرَكَةِ الدَّؤوبَة 
هيَ لِغَسْلِ أَقْدامِ هَذهِ الصُّخور الهَرِمَةِ
أَو لمُداعَبَةِ رِمالِ الشّاطئ.
سَمِعْتُ بالطَّبْع، عَنِ المَدِّ والجَزْر 
لكِنّي في لَحَظاتٍ كَهَذهِ لا يُمْكِنُني أَنْ أُصَدِّقَ قَوانينَ الفيزياء 
ولا أَستطيعُ إِلّا أَنْ أُفكِّر مِثْلَ إِنسانٍ مَجروحٍ بالوجود.
لا يَسَعُني إِلّا أَنْ أَتمنّى لَوْ أَنّني مِثْلَ شَراشفِ الآلِهَة 
وأَنَّ بِوِسْعِ هَذهِ الأَمواج أَنْ تَغْسِلَني. 


■■■


هاوية شعبي

لا يُمْكِنُكَ أَنْ تَقولَ عَنْ شَعْبيَ شيئاً لا أَعْرِفُه
فَكَما انْحَدَرْتُ مِنْ سَمائهِ وغَيمِهِ وجِبالِه
فإِنَّني أَيضاً خَبِرْتُ سُفوحَهُ وكُهوفَهُ المُظْلِمَة
وعِنْدي نُسْخةٌ كامِلة مِنْ دفترِ موبِقاتِه،
حَتَّى ضِباعُهُ وأَفاعيه
أَحْدِبُ عَلَيْها وأُحِبُّها.

لقد طوَّح بِيَ الشَّكُّ كثيراً في إلهي
لكِنّي لَمْ أَشُكَّ بِشَعْبي مَرَّةً واحِدة
وإِليهِ نَسَبْتُ كُلَّ ما يَسْتَحِقُّ الحياة
لَيْسَ حُبّي لهُ وَحْدَهُ الأَعمى
أَنا أَيضاً أَعمى
أَسْلَمْتُ لهُ قِيادي
وأَعْرِفُ أَنَّهُ يَسيرُ بي إِلى الهاوِية.


■■■


تلّ السَّمَك

تَعالَ إلى تَلِّ السَّمَك
للمَوْجِ كَلِمَتُهُ المَسْموعةُ
وأَطلالُ المِيناءِ القديمِ سَتوقِظُ مِنْ رَقْدَتِها كُلَّ المَطالِع الجاهليّة:
هَلْ غادَرَ الحَيفاويّونَ مِنْ مُتَرَدَّمٍ؟من 
آذنَتْنا بِبَيْنِها... من 
عَفَتِ الدِّيارُ...
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ...

فقط تَعالَ إِلى تَلِّ السَّمَك.


■■■


كلام إِلى وادي الصَّليب

لا أَنتَ صَدَّقْتَ أَنّي كَبُرْت
ولا أَنا أُصَدِّقُ أَنَّكَ هُجِرْت

أَيُصَدِّقُ المَرْءُ
أَنَّ يَدَيهِ ووَجْهَهُ
أَصْبَحا خَرائبَ مَعْروضَةً لِلبَيْع؟

يا واديَ ظِلِّ المَوْت
وظِلِّ الحَياة
ظِلالُنا تَتَكسَّرُ وتَتَجَمَّعُ على شُرُفاتِ بيوتِك
سَنَظَلُّ نَتَواعَدُ ونَتَوادَعُ
مِثْلَ مَوْجَتَينِ ضائعَتَين في بَحْرِنا الكَبير.


■■■


أَمّا غنائي

-"غَنِّ قَبْلَ أَنْ نَحُزَّ عُنُقَك".
هَل كانوا يَظُنّونَ أَنَّ الخَوْفَ سَيُرْبِكُ غِنائي؟
لقد خِفْتُ مِنَ الحَياةِ كثيراً 
أَمّا المَوْت 
فآخِرُ ما أَخاف...
أَيَخافُ الحُرُّ 
مِنْ لِقاءِ صاحِبِه؟
فَلْيَكُن عِناقُنا مُخَضَّباً بالدَّم. 
أَمّا الغِناء، في هَذهِ البُرْهَةِ، فأُريدُهُ مُتْقَنَاً
حُرِّيتي هيَ أَلّا يُرْبِكَ القَتَلَةُ غِنائي.


■■■


ماذا أُريدُ أَكثر

وماذا أُريدُ أَكثرَ مِنَ الرَّب
بَعْدَ أَنْ وهَبَني قَرْيةً على البَحْر
وخَصَّني بِمَطْلَعِ النَّسيم مِنَ الجَبَل
صحيحٌ أَنَّ راياتِ الغُزاة تبدو مِثْلَ قَذَىً في العَيْن 
لكِنّي إذ أَكونُ بين أَهلِها الباقين 
وأُفكِّر بأَهلِها المُبْعَدين 
أُغْمِضُ عَينيَّ
كثيراً أُغْمِضُهُما
لا قَذَىً يُمْكِنُهُ أَنْ يطالَ هذا الجَمال. 


■■■


متاهات

مَتاهاتٌ خَضْراءُ وزَرْقاء 
مِنْها نَسَجَتِ المَدينةُ "جُرْزايَتَها" المَدرسيّةَ
رَمادِيَّ البُيوت
مُخاتَلاتِ الرّيح

مِنَ الأَزرقِ والأَخضرِ والرَّماد
نَسَجْنا المَدينة.


■■■


جَناح

اسْتَيْقَظْنا واسْتَيْقَظَ المُلْكُ لله
السَّماءُ قِطْعَةُ سُكَّر
يُذَوِّبُها طائرٌ بِجَناحِهِ.


■■■


بلد الشّيخ

زُرْتُ "بَلَدَ الشّيخ"*
لأَقرأَ السَّلام على الرّاقِدين
وقَفْتُ في الظَّلام وقَرَأَتُ الفاتِحَة

يا ربّ
حَتَّى في المَقْبَرَة أَقِفُ وحيداً؟


* قرية "بلد الشّيخ" في قضاء حيفا، دمّرها الاحتلال عام 1948 وفيها ضريح عزّالدين القَسّام.


■■■


أَتعذّب بسعادتي

حينَ تَهْبِطُ عَلَيْكَ مائِدَةٌ مِنَ المَنِّ والسَّلوى
وأَباريقُ لَمْ تَرَ مِثْلَها مِنْ خُمور الآلِهَة
ولا تَجِدُ أَحَداً سِوى نَفْسِك 
واقِفاً كالمُؤبِّنِ على رأسِ المَائِدَة 
شُعورُكَ مِثْلَ شُعوريَ الآنَ في زِنْزانَةِ السَّعادةِ الانْفِرادِيَّة 
عِنْدي بَحْرٌ وجَبَل 
والذينَ أُحِبُّهُم في المَنْفى.


■■■


ضربات عازف البيانو

لا أَحَدَ بِوسْعِهِ كِتابةَ ضَرَباتِ عازِفِ البيانو
في الرّاديو القديم على طاولةِ مَطْبخي
الذي عَثَرْتُ عَلَيْهِ في وادي الصَّليب،
في شَقّتي التي عَثَرْتُ عَلَيْها في حيفا،
حيفا التي عَثَرَ عَلَيْها الخالِقُ في صَباحاتِ بَهْجَتِه.
لا أَحَدَ سَيَفْهَمُ صَباحاتِ بَهْجَتي المُكْتَئِبَةِ
وكآبَتي التي تَقْطُرُ سَعادةً،
وكَيْفَ يَنْقَلِبُ مِزاجي
بِمُجَرَّدِ سَماعِ نشرة الأَخبار الصّهيونيّة
مِنَ الرّاديو القديمِ
الذي مُنْذُ الآن
لَمْ يَعُدْ يَمُتّ لي بِصِلَة.


■■■


مواطِنون مِنْ تُراب

تَسْتَيْقِظُ في النُّعْمى
وما ثَرَّ الخالِقُ الواهِب
المُحِبُّ المُسْعِدُ

آنَ أَنْ تَسْتَيْقِظَ في النُّعْمى
أَنتَ الذي طالَمَا وَقَفْتَ بِوَجْهِ الشَّقاء
مِثْلَ جُموعٍ تَهُبُّ بِوَجْه جَلّادِها.

الأَرضُ كُلُّها دارُ لُجوءٍ
النّاسُ كُلُّهُم مُواطِنونَ مِنَ التُّراب.


■■■


إِلّا هذا الكأس

I
هذا البُرْجُ الذي يَرفُضُ أَنْ يَنْهار 
رَغْمَ أَنَّ كُلَّ بلْدوزَرات الدُّنيا تَضْرِبُ في أَساسِهِ
هَذهِ الأَيقونةُ التي تَظَلُّ ناصِعَةً على حائطٍ عالٍ
رَغْمَ تَراشُقِ الوَحْل
رَغْمَ الحَضيضِ الذي يَلحَقُ بأَخيهِ الحَضيض
هذا الحُبُّ الذي يَرْفُضُ أَنْ يَنْتَهي 
رَغْمَ أَنَّ أَصحابَهُ انْتَهوا

يا ربّ، أَيَّ كأَسٍ تُريد 
أَجْرَعُهُ
لكِنْ أَجِزْ عَنّي بِلادي.

II
يا ربّ، إِنَّ كُلَّ شيءٍ يَهْرَم
إِلّا الشَّقاء يُجَدِّد شَبابَهُ 
يا ربّ، إِنَّ كُلَّ شيءٍ يَموت 
إِلّا المَأساة 
لا تَنْفَكُّ تُولَدُ عَذْراءَ مِنْ زَبَدِ هذا البَحْرِ الضّائع... 
يا ربّ، إِنَّ كُلَّ شيءٍ يَنْهار
سِوى هذا الأَسى يَشُجُّ بابي 
بِقَبْضَتينِ مَقْتولَتَين.


■■■


قُلْتَ 

قُلْتَ سَتُطْعِمُ النّاس
مِنْ بَيْدَرِكَ الصَّغيرِ 
رَغْمَ وطأة الهِجْران
مِنْ حَفْنَةِ قَمْحٍ 
ومِنْ مَطْلَعِ أُغنيّةٍ
ومِنْ ضَوْءِ عَيْنَيْكَ إذْ تَغْرُبان 

ولَمْ أَكُنْ إِلّا لأُصَدِّقَك 
وأَنتَ تَهْشِمُ جَسَدَكَ
 لهذا الحَجيجِ الصّاخِبِ 
مِنَ الطُّيورِ الغَريبةِ.
.......
.......
ها أَنتَ تُطْعِمُ النّاس. 


* قصائد من مجموعة شعرية جديدة بعنوان "كُرسيّ على سُور عَكّا" تصدر قريباً عن "دار الفيل" و"المؤسسة العربية للدراسات والنشر"

المساهمون