كتاب غسان كنفاني "في الأدب الصهيوني".. الثوريُّ مثقّفاً وناقداً

كتاب غسان كنفاني "في الأدب الصهيوني".. الثوريُّ مثقّفاً وناقداً

08 يوليو 2022
(يكشف كنفاني الأدوات الثقافية والأدبية للاختلاق الصهيوني)
+ الخط -

لا يُسلِّم غسّان كنفاني نفسه للتصنيف السهل. إنه مشهورٌ للفلسطينيين ولكلِّ من هو مهتم بفلسطين، لكنْ ليس كشخصية واحدة. لقد كان ثوريًّا ماركسيًّا، متحدّثًا باسم حزبٍ، روائيًّا، مُنظّرًا سياسيًّا، مدرّسًّا في مدرسة، فنّانًا، محرّرًا لصحيفة، وأُمميًّا ملتزمًا. هذه التفاوتات في التصوُّر تليق بحياة كنفاني المتنوّعة، ولقد كان متفوّقًا في كلٍّ من هذه الأدوار. غير أنّه كان أقلَ شهرةً في مهنة أُخرى، كان فيها أيضًا بارعًا: النقد الأدبي.

عبْر حياته القصيرة، قدّم كنفاني عروضًا وتحليلاتٍ للكتابة الإبداعية في العديد من الأنواع الأدبية، علمًا أنه كان طالبًا للأدب في "جامعة دمشق"، حيث التقى بمعلّمه جورج حبش، مؤسّسِ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وهي منظّمة ماركسية- لينينية كان لها حجمٌ وتأثيرٌ مهمٌ في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. بالإضافة إلى كتابه "في الأدب الصهيوني"، ألّف كنفاني كتابين ينقدان الأدب الفلسطيني. على خلاف رواياته وقصصه القصيرة، هذه الأعمال لم تُترجم إلى اللغة الإنكليزية.

كما يُوَضِّح "في الأدب الصهيوني"، كان غسّان كنفاني ناقدًا لاذعًا وثاقبًا، في نفس الوقت كان كريمًا في فهمه للعاطفة والشكل، وحادًا في تقييمه للسياسة والأسطورة. لا نستطيع بشكلٍ كافٍ أن نستوعب نقدَه الأدبي من دون أن نغوصَ أيضًا في الحساسية السياسية التي جلبها إلى هذا المشروع. من المُساعد أيضًا أن نتفحّص محدّدات هذا المشروع نفسه. النقد الأدبي ليس من المفترض أن يكون سياسيًا. ربما يبدو هذا سخيفًا على ظاهره (شيءٌ لا يمكن لقارئِ أدبٍ جادٍّ أن يعتبره محتملًا) لكنّ هذا المحدِّد ليس مُسلّمةً بقدرِ ما هو نوعٌ من الترميز الأيديولوجي. تحديدًا، إنه يعمل ليُعزّز الأرثوذكسية الفكرية والاقتصادية. بوضع النقد "السياسي" في تصنيفٍ أقل ضمن العمل الثقافي، فإن حاملي لواء الأكاديمية والفن سوف يحظرون الفكر الثوري داخل البيئات المؤسّساتية. أيُّ شيءٍ يهدّد مراكز السلطة سوف يحصل على علامة "سياسي"، وبالتالي - وبحكم الضرورة - سوف يحصل على تقييمٍ سلبي وعلى سوءِ السمعة التي تصاحبه. السلطة إذًا تأتي لتتمثّل في اللاسياسي. هذا النوع من البيئات لا يرحب بنقّاد مثل كنفاني.

على خلاف رواياته وقصصه، لم تُترجم أعماله النقدية إلى الإنكليزية

إنّ تجاهل العادات البرجوازية لم يكن قضيةً عند كنفاني، الذي أراد من أسلوبه النقدي أن ينصبَّ في النضال الفلسطيني نحو تحرّر وطني. إن أسلوبَه أقلُّ من أن يكون اختيارًا اعتباطيًّا منه أن يكون نتيجةً لأطروحته بأنّ الأدب الصهيوني ذاتَه سياسيٌ بدرجةٍ عميقةٍ (بالمعنى التقليدي للمصطلح). لقد حدّد كنفاني "مخطّطاً هائلاً" من قبل القادة الصهاينة بأن يُجنّدوا كمًّا واسعًا من الأعمال الفنّية لخدمة مشروعهم الكولونيالي. لقد أعدّ قائمةً طويلةً من الأمثلة ليطرح قضيته: ياعيل دايان "الغيرة من الخائفين"، مقالات أحاد هعام عن الصهيونية واليهودية، ليون يوريس "الرحيل"، والعديد من المواد الإبداعية والتاريخية الأُخرى.

لم يكن نقده منحصرًا في النصوص نفسها. فقد بحث كنفاني في صناعة النشر، وأيضًا المؤسسات الثقافية ذات العلاقة كمواقع للسياسة الإمبريالية. تأتي لجنة "جائزة نوبل" لتقييم قاسٍ من نوع خاص "لماذا ذهبت لجنة نوبل إلى حد منح جائزتها لكاتب رجعي ومتعصّب (شموئيل يوسيف عغنون) عام 1966، الذي تفتقر كتابته إلى جميع المتطلّبات الأدبية للجائزة؟" بالنسبة إلى كنفاني، فإنّ المشهد الأدبي الغربي ليس منتدًى مُنْفتحًا مبنيًّا على الاستحقاقية، ولكنه سوقٌ تجارية مُتحكَّمٌ فيها بشدَّة، أكثر ما يعنيها إرضاءُ ميول طبقةٍ حاكمة مفترسة. العديد من المؤلّفين الصاعدين الذين يتحلَّون بإخلاصات ثورية حاولوا أن يُبحروا في هذه الصناعة، ووصلوا إلى نتيجةٍ مشابهة.

يجعل كنفاني هذا جليًّا: الصهيونية ليست مطابقةً لليهودية أو الشعب اليهودي. يُحدّد كنفاني التمزّقات في تعريف الحركة الصهيونية لنفسها وتعريفها المشهور والشعبي، بسبب منشأها في الإمبريالية الغربية. إنّ كنفاني، وبشكل لا إبهام فيه، يُوضّح تورُّطَ اليهود في المعاناة الفلسطينية ويعتبره تنصّلًا من المصداقية الفكرية بأن يجري إعفاء اليهود، بصفتهم يهودًا، من طرد الفلسطينيّين، لكنه يُظهر بأنّ الأفكار السائدة عن كون اليهود شعبًا قد جرى نسفها من خلال تطبيع مفهوم الصهيونية، والتي تصف نفسها على أنها حادثة طبيعية. رغم أنّ الصهيونية في الحقيقية لا تنبثق من التقاليد الكتابية أو الممارسة الثقافية، إلّا أنها تُصِرُّ على تفوّقها كنموذج أوّل وحَكَمٍ نهائي للشعب اليهودي. هذا الجهد لم يكن المجال الوحيد للشعب اليهودي، فقد لعبتْ القوى الإمبريالية ونجوم "محبّي السامية" دورًا مهمًّا.

الصورة
في الأدب الصهيوني - القسم الثقافي

لا يعامل كنفاني الصهيونية كَرَدٍّ طبيعي على معاداة السامية الأوروبية، عِوضًا عن ذلك، يستكشف الديناميات الداخل-مجتمعية بخصوص الطبقة والانتماء الديني. ربما يكون تلخيصه للاندماج اليهودي في أوروبا الحديثة أكثرَ الأجزاء قابليةً لإثارة الجدل في الكتاب، لكنّ النقطة الأساسية لديه تضْمن بحثًا جادًّا حيث إنها تقلب الرواية السائدة للصهيونية على أنها ضرورة وجودية.

بالنسبة إلى كنفاني، الصهيونية كانت في نهاية المطاف خيارًا نابعًا من عنصرية متجذّرة وميلًا متعصّبًا للحصول على السلطة لخدمة السيطرة والتكديس الإمبريالي على حساب اليهود العاديّين. يجادل بأنّه "إذا كانت فرص الاندماج والذوبان قد بدأت بالاتساع أثناء هذا الانفراج، فإننا نلاحظ في المقابل أنّ تيارًا من التعصّب كان ينمو في الاتجاه المضادّ في الأوساط اليهودية ذات الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية الخاصة، وسيبدأ أدب من طراز صهيوني يبرز بروزًا مستمرًّا ليس في مطلع القرن التاسع عشر أكثر من وميض خاطف وعلامات، ولكنه يتخذ طابعًا أشدّ وضوحًا في منتصف القرن ليصبح شائعًا في أواخره، مفجّرًا، في النهاية، الصهيونية السياسية التي كرّسها مؤتمر بال عام 1897".

واسعُ الاطّلاع في الأدب اليهودي أبعدَ من تصنيفه على أنّه نوع صهيوني (وهي خانة تتضمن مؤلّفين مسيحيّين)، يبرهن كنفاني على فهمه المذهل للتقاليد الطقوسية، الروايات العلمانية، والتطوّرات اللغوية.

بيّن بأنّ الاختراع الصهيوني إنما حصل من خلال الأدوات الثقافية

ممّا لا شكّ فيه أنّ علماء اليهودية سيجدون استفزازاتٍ عظيمةً بسبب اختصارات كنفاني التاريخية الساحقة، لكن حنكته الحادّة، من وجهة نظر الطرف المستعمَر، هي خاصيةُ الكتاب الأبرز. سيكون من الممتاز إن نحن ركّزنا على جدليته بأنّ الصهيونية ليست بميلٍ ثقافيٍ ولا هي ضرورة سياسية. إنها ظاهرة مادية متجذّرة في أفكار عنصرية للثقافة والسياسة، أفكارٌ حاولت تحطيم السياسات اليهودية الشيوعية والثورية في أوروبا. استعراضُ كنفاني العام التاريخي يُوضّح تناقضات الحركة الصهيونية المتأصّلة فيها.

من أجل فهم الأدب الصهيوني، إذًا، على الناقد أن يُحلّل العملية المُضْنية والتي غالبًا ما تكون متناقضة والتي تهدف لخلق فكرةِ أمّةٍ واحدة من مجتمعات متباينة (وفي بعض الحالات غير متناسبة). السبب يرجع إلى أن الأهداف السياسية الصريحة للصهيونية لا يمكن أن تحقّق السيطرةَ على الخيال الغربي من دون براعةِ الأدب والوسائل الإبداعية الأُخرى.

إنّ إعادة الكتابة والمراجعة كانت سمة أساسيةً لاستراتيجية السيطرة الصهيونية-الإمبريالية على فلسطين. لقد قام قادة الحركة بتنقيب الماضي من أجل خلق حجج ناجعة لاستيطان المشرق. إلى حد كبير، قصدوا التوراة من أجل مواد ومصادر، وهي ممارسةٌ ألهمت عددًا هائلًا من الدراسات، لكن كنفاني يُظهر لنا أنّ الكمَّ الأكبر من عملية الاختلاق الحاسمة حصل عبر الأدوات الثقافية.

يصبح الأدب الصهيوني قابلًا للقراءة فقط بعد رفض فكرة الصهيونية

هذه الأدوات - بشكل أساس كانت الكتابة الإبداعية - إمّا أنّها أثَّرت بشكل مباشر على المشروع الصهيوني أو أنها جُنِّدَت لخدمة الصهيونية بواسطة الأيديولوجيّين والعديد من صانعي الذوق البرجوازيين. من ضمن المؤلفّين الذين حُرِّكوا لهذه القضية شخصياتٌ فِكتورية مشهورة؛ مثل بينجامين دزرائيلي وجورج إليوت. من بين المقتطفات المذهلة العديدة التي يُسلّطُ كنفاني الضوءَ عليها، بينما كان يحلّل التطوّرات الأولى للحِيَل الصهيونية، هي اللحظة التي تنادي فيها إحدى شخصيات جورج إليوت في روايتها "دانيال ديروندا" (1876) بشكل واضح لتأسيس دولة يهودية في فلسطين، قبل سبعين سنة من أن يصبح هذا الشيء حقيقة: "سيربح العالم عندما تربح إسرائيل. سيكون هناك مجتمع في مقدّمة الشرق، مجتمعٌ يحمل ثقافةَ وتعاطفَ كلّ أمّة عظيمة في حضنها. ستكون هناك أرضٌ جاهزة تتوقّف فيها العداوات، أرضيةٌ محايدة للشرق كما بلجيكا للغرب".

بشكل من الأشكال، مهّد أسلوب كنفاني لبروز الدراسات الثقافية في العقود التالية، نسختها البريطانية بشكل محدّد. متأثّرِين بباحثَين ماركسيَّين مثل ستيورت هول وريموند وليامز، فإنّ النقّاد شعروا بأنهم مقيَّدون بدرجة أقل من قِبل الموضوعية المُدّعاة، وبدأوا باستكشاف الأدب كسلعة أيديولوجية، خاصة في ما يتعلّق باستخدامه في الحملات الدعائية ضد الشيوعية. إنّ أيّ شخصٍ يؤمن بسوقٍ ثقافية محايدة سوف يجد صعوبةً مع "في الأدب الصهيوني"، والذي يتعامل مع مثل هذا الاتجاه على أنه سخيف وغير جاد، وهذا محتمل. السوق الثقافية هي موقع للتراكم، كغيرها من الصناعات الرأسمالية الأُخرى، حيث فقط منتجاتها هي ما يُدخل الاقتصاد في حالة من التجريد والسهو. تلك السوق هي الأساس الجمالي للهيمنة، المادّة الخام للحس السياسي المشترك.

على هذا الأساس، يقترح كنفاني أنّ الالتزام بالصهيونية يَحُول دون التوجُّس من الأدب الصهيوني. في الحقيقة، حتى أن تتعرف على هذا التصنيف فهذا يُعتبر نوعًا من التكيّف الفكري. إنّ المثير للسخرية في الأدب الصهيوني هو أنه يصبح قابلًا للقراءة فقط بعد رفض فكرة الصهيونية. دون ذلك، فإن ذلك الأدب لا يمكن إلّا أن يُقدّم نفسه على أنه حادثةٌ طبيعية في العالم الحديث. على الأدب الصهيوني أن يَظهر بلا هدف من أجل أن يحقّق هدفه. وهذا هو الترميز الأيديولوجي الذي يُمضي كنفاني وقتًا كبيرًا في كشف الغطاء عنه. الأدب ما هو إلّا مقدّمة وملحق للمشروع الاستعماري، وكلاهما تأسيسيٌّ بالتبادل. عليك أن تفهم كليهما حتى تفهم كلًّا منهما على حِدة.

إلى أين يمكن أن يقودنا هذا المنهج بإزاء العمل السياسي والفكري؟ لربما سيعْلقُ هذا السؤال في ذهن القارئ خلال صفحات الكتاب. لا يترك لنا كنفاني خيارًا سوى التأمّل في مسائل التحرّر. إنّ الإلحاح، ومن وقت لآخر النبرة المبالِغة لا يسمح لنا بالشعور بالفتور أو عدم الاكتراث. علاوة على ذلك، منهجية كنفاني غير ملائمةٍ لأي نوع من الانعزال، وهو موقفٌ يجده غرائبيًّا عندما يتعلّق الأمر بالمزاج الثوري للفلسطينيّين، والعرب بشكل عام، في أعقاب حرب 1967 الحديثة في وقته.

على الأدب الصهيوني أن يَظهر بلا هدف من أجل أن يحقّق هدفه

لقد كان الفلسطينيون يداوون آلام الهزيمة بأشكالٍ جديدة ومستعجلة من المقاومة - كانت الجبهة الشعبية على بُعد شهورٍ فقط من تأسيسها الرسمي - وبعمر 31 سنة فقط، كان كنفاني مليئًا بالحيوية لدرجة ساطعة الوضوح. "في الأدب الصهيوني" يتناغم مع القارئ المعاصر، داخل وخارج فلسطين، ولكنه أيضًا وثيقةٌ لزمانه، عازمٌ على قلب الصورة النمطية الأسطورية لـ لإسرائيل التي تمثّلها شجاعةً محاصرةً ومحاطةً بجحافل عربية عدوانية.

لكنْ، ولأنّ العديدَ من الظروف التي خاطبها كنفاني لا تزال قائمةً، وفي العديد من الحالات قد ازدادت سوءًا، فإنه من غير الجيّد النظرُ إلى هذا الكتاب على أنه أداةٌ أثريةٌ فحسب. على الرغم من أنه ابن زمنه، ويخص الظروف السياسية والاقتصادية في زمن كنفاني، إلّا أنّ الكتاب يناقش أشكالًا مستمرةً من العنف الكولونيالي والطرد، شيءٌ محوريٌّ في التجربة الفلسطينية في اللحظة الحاضرة.

كما هو الآن، تلك التجربة لها بعدٌ عالمي. إنّ مواجهة كنفاني الشرسة للأدب الصهيوني تهدف أنْ تُظهر أنّ المشاعرَ الثورية الفلسطينية والتحرّر الوطني لا غنى عنهما من أجل خلق عالمٍ أفضل. لقد تابع هذا الهدف في لحظة انتصار الصهيونية، في لحظةٍ حتى اليسار في "الشمال العالمي" ابتلع بشكل كبير روايةَ إسرائيل الضحية. لم يكن كنفاني والقضيةُ الفلسطينية بدون حلفاء في "الجنوب العالمي"، من ناحية ثانية.

في نفس العام الذي كُتب ونُشر فيه "في الأدب الصهيوني"، احتضنت بيروت - المدينة التي عاش فيها كنفاني منذ 1960 - المؤتمر الثالث للكتّاب الأفروآسيويين. بشكل شبه أكيد، حَضَرَ كنفاني هذه الفعالية1، والتي بمجرد اختتامها أصدرت قرارًا حول فلسطين، لاقى استحسانًا مباشرًا من قبل جميع الكتّاب التقدّميّين الأفروآسيويين حول العالم "بأن يقفوا بوجه المؤامرة الثقافية الواسعة التي أطلقتها الحركة الصهيونية". قرارٌ منفصلٌ آخر أكّد على ضرورة مواجهة التسلّل الإمبريالي والنيوكولونيالي في الحقل الثقافي، هذا القرار صنّف الحركة الصهيونية - "أداة إمبريالية تستخدم لتخدم الأهداف الإمبريالية العدوانية" - على أنها مثالٌ بارز لهذا النمط2.

نتيجةً لذلك، فإنّ من المهمّ أن نكتشف كيف يمكن أن نفهم كنفاني باللغة الإنكليزية - وفي الوسط الغربي الذي يتأتّى مع هذه الترجمة. واحدٌ من التحديات التي تواجه استهلاك المادة المترجمة هو الوعيُ المستمر بأنّ هذا النص أُلِّف بلغةٍ مختلفة، ومن ثمّ محاولة تَخَيُّل تناغمه الخاص في اللغة الأصلية. حتى أكثر الترجمات إخلاصًا سوف تواجه صعوبة في نقل السياق الدقيق لبعض المفردات والعبارات. هذه القضية معقّدة بشكل مزدوج في حال الكتابات الفلسطينية باللغة العربية، والتي بمجرّد تحويلها للإنكليزية فإنها تدخل نطاقًا لغويًّا وجيوسياسيًّا معاديًا أساسًا لفلسطين.

هذا لا يعني أن "في الأدب الصهيوني" يجب ألّا يُترجم. على العكس من ذلك، الترجمة ذات فائدة هائلة للأُناس الذين لا يستطيعون قراءة الكتاب بلغته الأصلية. إنّ توسيع جمهور كنفاني أيضًا يُوسِّع إمكانية الولوج إلى حساسيات النضال الوطني الفلسطيني، والتي يجري التقليل من جدّيتها بين مجتمعات الشتات. إذًا، على القُرّاء أن يبقوا في أذهانهم أنّ كنفاني تحدَّث بلغة ثورية يفهمها بشكلٍ كاملٍ المجتمعُ الفلسطيني - غيرَ معتذرٍ في كرامته، يتوقّع مستوىً معيّنًا من الفهم والمعرفة، ويتناغم مع اللسان الأصلي. لم يكن معنيًّا بتلطيف الحساسيات الليبرالية في الولايات المتحدة (أو في فلسطين، بنفس المستوى). تَكَوَّن جمهوره من الفلسطينيين ورفاق القضية الفلسطينية. هذه الترجمة تسمح لجيلٍ جديدٍ بأن يناضل من أجل تلك القضية، أيضًا.

هذه الترجمة تسمح لجيلٍ جديدٍ بأن يناضل من أجل تلك القضية أيضًا

هذه النقطة حول جمهور كنفاني ليست ثانوية. يقضي كنفاني الكثير من الوقت في الحديث عن الصهيونية، لكن القارئ الفطن سيفهم أن الكتاب يدور في الواقع عن فلسطين والفلسطينيّين. كان كنفاني يعلم أنه من المستحيل الكتابة عن إسرائيل دون الكتابة أيضًا عن أهل البلاد الأصليّين، حتى عندما لا يُذكَر هؤلاء. في مثل الأوقات التي لا يعترف فيها المؤلّف الصهيوني بالسكّان الأصليّين، "اختاروا اتّخاذ موقف يكاد يعلن أن العرب هم شعب لا يستحق أن يعيش في المقام الأول". في كلتا الحالتين، ينتهي الأمر بالفلسطيني كشخص منزوع الإنسانية.

قبل توجيهك إلى الحدث الرئيس، يبدو من المفيد أن نقول بضعَ كلماتٍ عن المؤلّف. منذ اغتياله على يد إسرائيل في عام 1972، في السادسة والثلاثين تحمّل كنفاني تحوُّله إلى أيقونة، لكن إرثه يمكن أن تطاوله تعقيدات شتّى بسبب ذلك. 

تنتشر صور ومقاطع فيديو لكنفاني بشكل متكرّر على وسائل التواصل الاجتماعي؛ من الواضح أنه حيّ جدّاً في ثقافة فلسطين وخيالها السياسي، ولكن في بعض الأحيان يحضر بشكل مجرّد، بعيدًا عن الظروف المادية التي حدّدت عمله والمبادئ الثورية التي ميّزت أيديولوجيته.

في الوقت نفسه، "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" أقلُّ بروزًا ممّا كانت عليه خلال ذروة الستينيات والسبعينيات، لكنها لا تزال قائمةً على الأرض وفي تحليل القضية الوطنية الفلسطينية. في حين أن عمليات اختطاف الطائرات وحرب العصابات هي الإرثُ الأكثرُ وضوحًا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فإن لأفكار المجموعة أيضًا تأثيرًا كبيرًا. العديدُ من تلك الأفكار تَبرُز جليًّا في الكتاب الآتي: الطابع الإمبريالي للصهيونية، أهمية السرد في شرعنة عنف الدولة، أولوية الطبقة في كلٍ من الاستعمار الصهيوني والمقاومة الفلسطينية.

إن كنفاني معروفٌ بشكل مختلف للإسرائيليين (إضافةً إلى الأوروبيّين والأميركيين الشماليين، لدرجة أنهم على دراية به). وسط الطبقات المهنية والسياسية الصهيونية، لم يكن كنفاني مجرّدَ عدو، بل كان كلَّ كلمةٍ تحقيرية تُطَبَّق على ضحايا الصهيونية: متطرّف، معاد للسامية، بربري، إرهابي. على الرغم من كونه ماركسيًّا مخلصًا، لم يكن كنفاني بطلًا للطبقة العاملة الإسرائيلية، والتي حقّرته بنفس الغلواء. من جانبه، اعتبر كنفاني أن الطبقة العاملة الإسرائيلية تُشكل تكوينًا عدائيًّا بالنظر إلى فداحة النكبة وعدم المساواة الهيكلية في النظام القانوني الإسرائيلي. كان تضامنُ الطبقة العاملة قابلًا للتطبيق فقط باقترانه مع إنهاء الاستعمار ونهاية الهيمنة الإمبريالية.

انتقالٌ من عالم الأسطورة إلى تضاريس سياسة محسوسة ذات جدوى أكبر

حتى يومنا هذا، لا يعرف الإسرائيليون كنفاني حقًّا. يعرفون اسمه. يعرفون أفعاله. يعرفون سمعته. لكنهم لا يستطيعون فهمه بشكل صحيح باعتباره مثقّفًا وناشطًا، وبالأخصّ، ليس كإنسان لديه الجاذبية لإلهام شعبه. لقد حوَّله الإسرائيليون إلى بُعبع يطارد استيهاماتهم عن السلام. لكنَّ كنفاني كان يعرف الإسرائيليّين جيّدًا. في حالات القوّة غير المتكافئة، المعرفة الرسمية تكون بيد المضطهِد، ببيروقراطية رفيعي المستوى والمؤسّسات البرجوازية، لكن المضطهدين يمتلكون شيئًا أكثر قوّةً وبديهيةً: حاجة عميقة لتحرير أنفسهم من الظلم والخضوع. المضطهَدون، بحكم الضرورة، لديهم معرفة وثيقة بالمضطهِد. يُعتبر هذا الكتاب مثالًا ممتازًا على هذا المبدأ.

منذ بدايتها، كرَّست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نفسها للأفكار، ولديها أرشيفٌ نابضٌ بالنظرية الثورية، لكنها تحافظ أيضًا على وجودٍ عسكري نشط بين المقاومة حتى يومنا هذا، وفقًا لتقليد فرانتز فانون وأميلكار كابرال3: العنف ليس فقط كوسيلة للسيادة الإقليمية والسياسية، ولكنْ كمقدّمة نفسية للتحرّر. وبهذه الطريقة، فإن عمل كنفاني السياسي والأدبي لا ينفصلان. لن يكون من الخطأ القول إن تقييمه للأدب الصهيوني هو في الأساس تأكيدٌ لمستقبل فلسطين. في سعينا لفهم كنفاني، من الجيد أن نتخلى عن التصنيفات الأنطولوجية والفكرية المنفصلة تمامًا، أو على الأقل أن نفكّر فيها على أنها ديناميكية وتفاعلية. "في الأدب الصهيوني" هو نقد أدبي "سياسي"، في الواقع، خاصة بمعنى أنه يرفض فصل الثقافة عن الإمبريالية.

كتابات كنفاني السياسية، مثلها مثل التقليد الثقافي الفلسطيني الأوسع، غير معروفة في العالم الناطق باللغة الإنكليزية على الرغم من تأثيرها الكبير في اللغة العربية. إنّ ترجمة "في الأدب الصهيوني" هي محاولةٌ لتصحيح هذا النقص. كقرّاء، يمكننا أن نتعلّم الكثير عن الصهيونية والمقاومة الفلسطينية من خلال معرفة وخبرةِ كنفاني المذهلة. يمكننا أيضًا اتّباع المثال الذي يقدّمه هذا الكتاب ونقل فهمنا للمواد السياسية في عصر الإنترنت من عالم الأسطورة إلى تضاريس سياسة محسوسة ذات جدوى أكبر.


هوامش

1. وفقًا لذكريات آني كنفاني، أرملة غسان، في مراسلات بالبريد الإلكتروني مع لويس ألداي، محرّر هذه النسخة المترجمة، مايو 2022. تعتقد آني أيضًا أنه من المحتمل أن يكون غسان قد ساهم في صياغة قرار المؤتمر بشأن فلسطين.

2. قرارات مؤتمر الكتاب الأفروآسيويين الثالث "25 - 30 آذار/ مارس 1967، بيروت، لبنان" كما ورد في "لوتس"، النشرة الرسمية للمنظمة.

3. في كانون الثاني/ يناير 1973، بعد أقل من عام على مقتل كنفاني، اغتيل كابرال أيضاً.



* أكاديمي وناقد أميركي عربي، والنص مقدّمته للترجمة الإنكليزية لكتاب "في الأدب الصهيوني" بتوقيع محمود نجيب، والذي تنشره اليوم Ebb Books بالتعاون مع Liberated Texts في الذكرى الخمسين لاغتيال كنفاني. خصّ الكاتبُ "العربي الجديد" بنشر الترجمة العربية لمقدّمته والتي أنجزها مُصعب أبو توهة.

المساهمون