لنقرأ اليوم "برقوق نيسان"... تحية للروزنامة النبيلة

08 يوليو 2022
غسان كنفاني، شاباً إلى الأبد
+ الخط -

قد يزهد واحدُنا في القول، لو كان الراحل على قيد الحياة فكم سيكون عمرُه الآن؟ ولشخص استثنائي مثل غسّان كنفاني "نقَل الحِبر إلى مرتبة الشرَف" كما يصفه محمود درويش، ظل عمره وسيظل 36 عاماً، عند اللحظة التي تشظّى جسده أشلاء على الجدران والشجر يوم الثامن من تموز/ يوليو عام 1972.

واليوم الذكرى الخمسون لاستشهاده، حين قرّر العدو أن عبوة متفجرة في سيارته ضرورية وحاسمة لإنهاء مؤسسة مقلِقة، وخندق متقدّم، وحقول موهبة يلعب بها على حافة الحياة، كما لو أنه يعرف أن العمر يُقصف قصفاً، وأن أي موت هو جريمة مدبَّرة، وأن على الفلسطيني أن يعي هذا القدَر وأن يقاتله.

لكنّ عمر غسان كنفاني اليوم هو 86 عاماً. ومن ذكّرتنا بذلك هي وداد قُمّري التي رحلت قبل أسبوع عن عمر 83 عاماً.


وداد أو سعاد

وداد قمّري أو سعاد وقّاد بطلة رواية "برقوق نيسان" هي التي قطعت النهر بعد هزيمة حزيران/ يونيو بعام، ولا نعرف مصيرَها في الرواية التي لم يكملها كنفاني، بعد أن زرع "الموساد" متفجرة في سيارته. لقد تسلّلت سعاد بعد اختفائها من وجه الاحتلال، متنكرة، عابرة النهر شرقاً إلى الأردن. إلا أننا نعرف أن وداد المقدسيّة المعلّمة في مدرسة لوكالة الغوث بمخيم عناتا في ستينيات القرن الماضي، ستخرج من بيت العائلة إلى جهة مجهولة، فورَ أن سمعت باعتقال الصهاينة، الشابة عبلة طه على الجسر الفاصل بين الأردن وفلسطين عام 1968، وهي تحمل في قعر حقيبة السفر متفجرات غطتها بالملابس.


ليس مقطوعاً من شجرة

لم يرِد هذا في رواية غير مكتملة. إنها ما يفعله المؤمنون بأن الذي أمّناه على سرديتنا ليس مقطوعاً من شجرة، كما لسنا أيتاماً. عبلة طه أبو سنينة، كان يمكن أن يمرّ ذكرها في الرواية لو اكتملت، ونحن نذكرها لأن الراحل أعطانا مفتاح صدره، وهي في عقدها السابع - أطال الله عمرها - تقيم في بيت لحم. هكذا كانت "أم حسين" التي أصبحت "أم سعد" عنوان الرواية الصادرة في 1969، العام ذاته على وجه التقدير الذي التقى فيه وداد قُمّري.

ماذا كان يمكن للمناضلة التاريخية في صفوف القوميين العرب ثم يساراً إلى الجبهة الشعبية، قليلة الكلام، "المتقشفة، الأكثر من بسيطة والبعيدة عن الأضواء"، كما نعَتها هيلدا زوجة حكيم الثورة جورج حبش- ماذا يمكن أن تقول أبعد مما قالته في فيلم "احكي يا عصفورة" الذي صدر عام 2007؟


برقوق نيسان

هذا الفيلم، الوثيقة النادرة للمخرجة عرب لطفي، تظهر فيه السيدة وداد وهي تتحدث عن "برقوق نيسان". تتحدث عما سجّله غسان كنفاني من سيرتها، وتضيف إلى النص ما كان يمكن أن يسجّله، أو سجّله ولم يعبُر به خيال الروائي بعد.

فقد غادرت قُمّري لبنان في ذلك العام 1969 بعد مظاهرات وفرض الأحكام العرفية إلى الأردن، على أمل أن يلتقيها غسان كنفاني مرة ثانية لتكمل سيرتها، ثم جاءت أحداث أيلول وعادت إلى بيروت، بيد أن الوقت مضى سريعاً ولم تكتمل، كما تُخبر محدثتها في الفيلم.

في يوم مثل هذا، يمكن الاكتفاء بقراءة "برقوق نيسان". إنها حوالي ثلاثين صفحة، كافية لأن تكون تحية للذكرى الخمسين وقد جاء الثلاثة على موعدهم: غسان وسعاد ووداد.

ومن اللحظات النادرة في السرد أن تقع هذه المصادفة التي تجعله حاضراً بشخص المؤلف وشخوصه، ومرجعيته الحقيقية. لا تفعل هذا إلا روزنامة نبيلة.


وهل قلت "الحقيقية"؟

إن كل شخصيات الرواية حقيقية، بالمعنى الفيزيائي والخيالي. حقيقية في اللغة المباشرة ومجازاتها، ومسامات الجلد، والصور الوحشية للحلم (بمقولة ماركيز)، وأسرار لغة غير معجمية يتقنها كل من "الأطرش والأعمى"، رواية غسان كنفاني، والتي اشتهر منها الأعمى وقد كان يُبصر الخبز بأصابعه.

تدلُّنا "برقوق نيسان" على جثة الشهيد قاسم التي أنكرها والده العجوز، حين جلبه جنود العدو للتعرف إليها، وعلى طلال قصير القامة الماهر في عبور النهر ونقل الرسائل، واليهودي المغربي إبراهيم، الذي أصبح أبراهام، وزياد حسين الشيوعي القديم وابنه الصبي وليد الذي يبكي في الزاوية. وعلى الطاولة باقة زهر البرقوق، وصحن الكنافة اللذان يكادان ينطقان بلغة الطبيعة الصامتة لولا غطرسة الجنود، وفقر خيالهم.


المتن والمتن

كل هذا سرد بإيقاعات سريعة ومتفاوتة في آن، ومجابهة للذات، وللكارثة التي وقعت في 67 بسرعة حادث سير.
في هذه التجربة الروائية القصيرة، نجد أنها الوحيدة بين أعماله الأدبية قد توزعت على متنين، فيما يبدوان في الشكل متناً وهامشاً. وفي عادة الهوامش أن تكون قليلة الكلمات في الرواية، وهي توضع لشرحٍ أو إضاءة، ويحاول الكاتب التخفف منها إلا مضطراً، مخافةَ أن يعطل مشي القارئ في أرض غير التي اقترحها.

أما هنا، فلدينا صوتان في متنين. بالإضافة إلى المعلومة، هناك سردان، واحد فوق والثاني تحت، ولا غنى لأحدهما عن الآخر. أي أنك لا تستطيع قراءة الرواية مهمِلاً ما قد تظنّ أنه هامش. إنه أشبه بالتصوير الدرامي عبر كاميراتين.

وكما مشت أم حسين، أم سعد "الشعب والمدرسة" في جنازته المهيبة، وتوفيت في أواخر تسعينيات القرن الماضي. وكما خرجت سعاد متنكرة نحو الأردن، دون أن نعرف عنها شيئاً في الرواية، توفيت وداد ودُفنت في العاصمة الأردنية عمّان. وبقي ملايين القرّاء يمرّون إلى اليوم وغداً في عالم غسان كنفاني، يُزجون التحية للأسماء الحقيقية، إن عرفوها، والأسماء الحركية التي خلقها الكاتب، لتكون مشاعاً لحق التمرد والجمال الإنساني بكل لغات الأرض.


الضروري والموهوب

لهذا كانت السنوات الست والثلاثون تجعل العدو والرفيق عاجزاً عن إطلاق صفة أو اثنتين قبل اسمه، للتعريف بوجوده الضروري في الحياة الفلسطينية، الضروري ولكن الموهوب والمتعدد.

أما القاتل، مجهّز العبوة، الأكثر مباشرةً، يعرف أنه: الهدف غسان. مار تقلا، الحازمية، بيروت. الشقة في الطابق الأول من عمارة. تسعة كيلوغرامات مواد متفجرة وزِر تفجير عن بعد.

والهدف غسان، في عملية للموساد، ليس هو غسان "الهدف" المجلة التي أسسها عام 1969، وصارت أبرز منابر نضاله السياسي.

هناك فارق معرفي بين مجرم صغير، وعدو تقوده غولدا مائير يدرك خطورة الرجل. الجريمة الكبرى صاغتها أبحاث واستراتيجيات عرفته عدواً، مثلما قرأها في دراسة "في الأدب الصهيوني" تحت شعار "اعرف عدوّك" الذي تلاه في مقدمته، ومثلما "قتل" فلسطينيين في رواية "رجال في الشمس" لأنهم جبنوا عن دق جدار الخزّان.

المؤسسة الاستعمارية أدركت أن وجوده في الوعي الفلسطيني جذري ومستقبلي، وغير محايد.

لا حياد في صوت "رجاء" حين قالت في المسرحية الإذاعية "جسر إلى الأبد" "إذا ما أتى الشبح سأبصق في وجهه".


تملّك اللحظة

في طبعة أصدرتها مجلة الدوحة لـ"برقوق نيسان" ومجموعة قصص قصيرة، عام 2011، دراسة في خاتمة الكتاب للناقد فيصل دراج ينقل فيها عن العلّامة إحسان عباس (1920-2003)، رداً على سؤال: ماذا تذكر من هذا الإنسان الذي غادر قبل الأوان؟

قال: أذكر فضولَه إلى ما لا يعرف، وقلقَه الذي لا يمكن حجبُه، وتوزُّعه على أكثر من مكان ووظيفة، وسعيَه المرهق إلى تملّك اللحظة والتصرف السديد بالوقت، مضيفاً أنه كان لا يعرف أنصاف الحلول، ويعمل على حذف المسافة بين القول والمعيش.


مقابلة فيديو

ولمن يتابع شريط الفيديو للصحافي الأسترالي ريتشارد كارلتون في مقابلة نادرة عام 1970 مع كنفاني، لا يصدق أن هذا الشخص لديه وقت آخر ليكتب رواية، ومسرحية، ومقالة، ودراسة، وقصة أطفال، ونقداً أدبياً، وليرسم لوحة، وليقرأ بالعربية والإنكليزية. هذا الفيديو درسٌ لا يُبارى في عالم السياسة العربية، فهو عميق الذكاء والكرامة، ولذلك لا يُبارى. ولطالما فكرتُ في العلاقة بين الكلمات وسماكة الجلد.

أما وقد كان فيديو في بضع دقائق، فهو مطابق وملخص لكل الصفات التي ذكرها إحسان عباس، وتزيد عليها معاينة كاريزما المتمرد على "التنعيج الذهني" وإنكليزيته الوسيمة باللكنة الفلسطينية.


بلحمهم الحيّ

إن أحفاد وأبناء الذين رحلوا ورثوا روح غسان كنفاني، واجترحوا طرائقهم في المقاومة، والكتابة. وهم يعرفون حق المعرفة أن الميزة الفريدة لهذا الرجل، ذيوع كتابته في الوطن العربي، ومشاعية حضور الناس بلحمهم الحيّ ليقولوا نحن مرجعية هذه الرواية أو تلك، وهذا أمر لا يسمح به الكتاب عادة.

حين أطبقت لحظة الفقد و"وقف الشريط في وضع ثابت"، كما تقول قصيدة صلاح جاهين، استأذنّا الراحل العظيم بإكمال روايتنا من شُرفته، مع الاعتذار الذي سيقبله من كان وجوده كريماً كالماء السبيل.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون