فيروز الفريدة مرّتين

فيروز الفريدة مرّتين

22 يناير 2023
فيروز خلال حفل في "مهرجان بيت الدين"، لبنان، صيف 2001 (Getty)
+ الخط -

فيروز تتقدّم في الثمانينيات، الجميع يعرف ذلك، لقد باتت مسنّة، مثلها في ذلك مثل جميع الناس. الشخص العادي يمكنه أن يفكّر الآن أنها تغدو هرمة، مثلي أنا. مثلي أنا، لن تكون شخصاً آخر. هذا قد يعني أنني كفيروز، فيروز في سنّها هذه تعود إليّ، إنّ لي فيروزي، بل أنا قد أكون فيروز أخرى. الكلّ يستردّون فيروز، الكل يتحوّلون إلى فيروزات.

هيئتُها نفسها تتبدّل مثل هيئاتنا؛ ألَمْ تُنشر لها صورة تبدو فيها مسنّة؟ لم تستطع الشهرة ولا الاسم الرنّان أن يخفيا ذلك. أثار نشْرُ هذه الصورة ضجّة كبيرة، اتُّهمت الابنة، ناشرة الصورة، بأنها أساءت إليها، ولم يفهم أحد لماذا نشرت الصورة. البعض وجدوا فرصة ليدافعوا عن شيخوخة فيروز، ليدافعوا بذلك عن الشيخوخة في عمومها، عن حظّ الإنسان وقدره. لم نعلم ماذا شعرتْ فيروز، إنها تتفادى البوح ولا تتنازل له. 

لكنّ أمراً آخر حصل: زيارة ماكرون وصورته في بيتها، صورتها هي في بيتها، في عباءتها. لقد كان هذا جديداً، ثمّة ساعة تكون فيها فيروز شخصاً عامّاً، ثمة ساعة تكون فيها خارج السن وخارج الاسم وخارج الشهرة، تكون فوق ذلك. إذ ذاك لن يحدّق أحدٌ في وجهها، لن يبحث أحد عن علائم السنّ، فهي في هذه اللحظة لن تكون جسداً ولن تكون هيئة؛ إنها، قبالة الرئيس الفرنسي، الأسطورة التي خرجت من مكمنها. عند ذلك نراها ولا نراها، بل لا نعرف ماذا رأينا. هل كان الاسم، عند ذلك، هو الذي خرج لاستقبال الرئيس، هل كان ذلك اسمُنا كلّنا، هل كنّا جميعاً هناك؟ لكلٍّ فيروزه، لكنّ الكلّ قد يكون فيروز.

فيروز تُواصل انفرادها، إنها ما يوحي به صوتُها، بل الحياة الثانية التي تخرج من صوتها. لقد استطاعت بهذا الصوت أن تخلق نوعاً من حياة موازية، بل حياة فريدة، يشعر الجميع بها أنها موهوبة لهم. إنها، على نحو ما، داخليتهم وحياتهم الأخرى. أغنية فيروز ليست فقط دعاء لحظة، إنها نوع من ذكرى، بل هي هذه الذكرى الموعودة، ذكرى ليس لها زمن وليس لها وجود. إنها الذكرى الملازمة، الذكرى التي، هي على نحوٍ ما، موجودة قبلنا. إنها نوع من خلق حياة، من استرداد حياة هي وحدها منذورة لنا، بدون أن تكون حقّاً حياتنا. إنها الحياة كلّها أمامنا، الحياة كما تكون الحياة، وكما نتذكّرها، على نحو ما، في الصوت الذي يصنع فضاءها، بل يمنحنا نحن هذا الفضاء. نحن نحبّ هكذا أغنية فيروز، بل تمنحنا هذه الأغنية سماءً وزمناً وواقعاً، وأكثر حقيقيةً، ليس بقدر ما لم نعشه، بل بقدر ما نستقبله ونصعد إليه.

أغنية تبقى فوقَ وخارجَ ما يطلبه الناس وينتظرونه

هكذا كان لفيروز، وللرحابنة إجمالاً، أغنيتهم، التي كانت نموذجهم الخاصّ في الأغنية العربية، نموذجهم الذي يقدّم الأغنية كمستوى آخر من الواقع والحياة، كفضاء متّصل وذاكرة ثانية. كانت فيروز هكذا أغنيةً أخرى، ترفع الغناء إلى ما يكونه الشعر وتكونه الموسيقى، ما يكونان فيه مرتقىً وما يشبه أن يكون سيرةً خاصة. كانت هذه المواءمة بين الغناء، وبين التذكُّر والحلم، ما جعل لفيروز أغنيتها وللرحابنة فنّهم، الذي لم يكن بعيداً عن عصره وعالمه.

زياد الرحباني، الرحباني الثاني، جعل لفيروز ريادتها الثانية في الأغنية العربية. هذه المرّة كانت الأغنية عَوداً على التذكُّر، وعلى الواقع، من مطرح ثانٍ، هو هذه المرّة استحضار مادّي ونقدي لهما. إنه التذكّر، لكنْ لحياةٍ مصنوعة من مفارقاتها، من لامعناها وتهافتها وعدميتها.

مرّتين كانت فيروز وأغنيتها وفرادتها، وكان للرحابنة من الجيلين أغنيتهم ونموذجهم، لكنّ الغريب هو أن الأغنية بقيت فريدة بل وواحدة. الغريب أن أغنية فيروز، التي كانت جزءاً من عملية تحديث شمل الثقافة والفن كليهما، بقيت خاصّة ولم تتحوّل إلى تيّار. لم نجد وريثا حقيقياً للإرث الرحباني، بحيث إن عملية التجديد الثانية كانت أيضاً لرحباني آخر، ولفيروز نفسها. 

أغنية اليوم، كما هي في كل مكان، لا تواصل أغنية فيروز الأولى ولا الثانية، كأن ما تحمله هذه الأغنية، رغم كلّ شيء، لم يجعل لها شعبية، ولم يجعل لها مساراً وسياقاً في الزمن. وكأنّ ما تحمله الأغنية الفيروزية يبقى، على نحو ما، فوقَ وخارج ما يطلبه الجمهور، بل ما يعنيه الغناء للشارع والعامّة. لقد كانت الأغنية الرحبانية على هذا النحو، منذ كانت، فوق تطلُّب العام الذي يتراجع أحياناً إلى الوراء، ككلّ ما يحدث لنا الآن، وما حدث دائماً لنا.
 

* شاعر وروائي من لبنان

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون