عن جوزفين و"صندوق الأمير كلاوس" وتصنيع هوياتنا

عن جوزفين و"صندوق الأمير كلاوس" وتصنيع هوياتنا

30 اغسطس 2023
من السنوية الستين للمجزرة التي ارتكبتها شرطة باريس بحقّ جزائريّين عُزّل عام 1961 (Getty)
+ الخط -

كنا نقفُ في شبه الظّلمة، عند مدخل قاعة حفل الاستقبال الذي تقيمه كل سنة مؤسسة "الأمير كلاوس" لمثقفّي العالم الثالث، الكولونياليّين غالباً الذين يبحثون عن الاعتراف في الغرب والمبهورين بثقافته، فهم يخلطون بين التطوّر العلمي الذي وصلت إليه تلك الشعوب والتطوّر الثقافي. أي يخلطون بين التقنية والثقافة في حين أنهما متعارضتان. التقنية هي موت الثقافة كما كتب مارتن هيدغر منذ الثلاثينيات، كما يعتقدون أنَّ الثقافة والقيم الغربية كونيّة مثلما يروّج الغرب عن نفسه.

ووجدت نفسي أقفُ وجهاً لوجه مع جوزفين. افترّ الثغر المنضّد كما تقول العرب عن ابتسامة متحفّظة تدلُّ على الأدب أكثر ممّا تدلّ على اللّطف، إنها "إتيكيت" حفلات الاستقبال. وتبادلنا كلمات التعارف. كانت تحيّتها بالفرنسية.

قلتُ أنتِ فرنسية؟ قالت من أورليون، وأنتَ؟ قلتُ من تونس. وأضافت من أين، فقلت أصيل قبائل البربر من الجنوب. وعقّبت هي آه! الأمازيغ، أنا أحبُّ الأمازيغ. قلتُ لها نحن بربر. هكذا نُسمَّى منذ حوالي 4000 سنة. من أيام الإغريق والرومان والعرب، وليس من المُمكن تغييره. هل من المُمكن تغيير اسم الصينيّين أو الأرمن أو اليونانيّين بعد تداوله أكثر من أربعة آلاف سنة؟ أضافت هي: أنا أحبُّ الأمازيغ وأدافعُ عن هذه الأقلية. فقلتُ لها: لماذا تدافعين على ما تقولين الأمازيغ. هل نحن في حرب؟ ارتفع حاجباها وجحظت عيناها في تعبير تعجّب. صمتت للحظة ثم قالت: لأنّي أحبّ وأتضامن مع الأقليات.

يصدّق بعضهم أن الثقافة والقيم الغربية كونيّة مثلما يروّج الغرب

وعقّبت بشيء من التحدّي: أوّلاً نحن لسنا أقلية، نحن شعبٌ مُتجانس. ثمّ إذا كنتِ حقيقةً تدافعين عن الأقليات، لماذا لا تناضلين في فرنسا من أجل أقلّياتكم الحقيقية؟ لماذا لا تساندين شعب الباسك الذي تحاصرونه منذ مئات السنين بالتعاون مع الإسبان؟ ولماذا لا تُساندين الحركة الانفصالية في جزيرة كورسيكا، وأقلية البروتون؟ هل تتذكّرين اللّوحات المعدنية المثبّتة داخل عربات ميترو باريس والتي كُتب عليها ممنوع البُصاق والحديث بلغة البروتون داخل العربات؟ ظلّت صامتة... ثمَّ قالت: ليس المشكل نفسه. ولم أرد أن أمضي في اللّجاج. وانتقل بنا الحديث إلى لوحات الرسامة السودانية التي تغطي جدران القاعة، والفائزين العرب بجوائز "مؤسسة الأمير كلاوس" لتلك السنة. لم أعرف منهم أحداً. 

وظللت أتأمّل. ها همّ اليوم مرّوا في الغرب إلى مرحلة متقدّمة من تفكيك وإعادة صياغة الشعوب، بواسطة التحكّم في وعيها؛ فهم يصنّعون هويّاتها، ومعتقدها وبنيتها الروحية بواسطة غابة متوحّشة اسمها الميديا، ونخبٍ أشبه بالمستشرقين الأهليّين Des Orientalistes Indigenes، وبفضل جمعيات من أمثال "مؤمنون بلا حدود". 

هكذا نشروا مصطلح الأمازيغ والشاي الأمازيغي، والعلم الأمازيغي ورأس السنة الأمازيغية، ونحن قبائل الجنوب لم نسمع بكلِّ هذه الأشياء التي لها وجودٌ افتراضيٌّ، ولا وجود لها فوق الأرض. أتذكّر مقالا ذكرت فيه اسم البربر فإذا بالمحرر وهو صديق مشرقي يغيّر الاسم إلى الأمازيغ.

وليس من باب الصدف أن ينال المغربي محمد شفيق 2002، "جائزة الأمير كلاوس"، وهي أرفع جائزة هولندية تُعطى للشّخصيات المتميّزة، وكلُّ ما في جعبة الرجل وكلّ عبقريّته أنّه الأبّ الروحي للحركة الأمازيغية.

لم تُمنح هذه الجائزة للفيلسوف المغربي الكبير عزيز لحبابي، ممثّل الفلسفة الشخصانية بعد غياب إيمانويل مونييه، ومؤسِّس الشخصانية الإسلامية، أو إلى عبد الكبير الخطيبي، عالم الاجتماع والفيلسوف، ولا إلى الكاتب والروائي الكبير محمد زفزاف... يقع تخطّي كلَّ هذه القامات الكبيرة، وتُمنح لرجلٍ شبه مجهول كان يوماً مُستشاراً للراحل الحسن الثاني.


* شاعر ومترجم تونسي مُقيم في أمستردام

موقف
التحديثات الحية

المساهمون