عمران قطر بعد كأس العالم (2/ 5): النقل ومنطق التحرُّك في المدينة

عمران قطر بعد كأس العالم (2/ 5): النقل ومنطق التحرُّك في المدينة

02 نوفمبر 2022
مشهد عام لمترو الدوحة بالقرب من "استاد أحمد بن علي"، 15 كانون الأول/ ديسمبر 2021 (Getty)
+ الخط -

نستكمل هنا ما بدأناه الأسبوع الماضي في المقال الأوّل من سلسلة "عمران قطر بعد كأس العالم"، حول البدائل التي تقود إلى التنمية المستقبلية، وننتقل الآن لاستعراض النقل العمراني ومنطق التحرُّك في المدينة، حيث تعتمد الفلسفة الجديدة للمُدن التي تستضيف الأحداث العالمية على مبدأ أنّ الحدث يجب أن يخدم المدينة، وليس أن تخدم المدينة الحدث فقط، ثم تُعاني بعد انتهائه. لذا، يُصبح السؤال كيف يُمكن إعداد المدينة لتكونَ في دائرة الضوء العالمية، وكيفية الاستفادة من مثل هذه الحالة لخلق مستقبلٍ أفضل ومستدام؟ كما نستأنف في هذا الطرح تحليل الكيفية التي تمكّنت من خلالها قطر من جعل استضافتها لـ"كأس العالم - 2022"، فرصةً لتضمن حياةً أفضل لسُكّانها في المستقبل وخاصة بعد انتهاء البطولة.


اركُن سيّارتك واركب المترو
 
كانت قطر تعتمد مثلها مثل كلّ دول الخليج، على السيارات، والعاصمة الدوحة كانت مدينة صديقة للسيارات بامتياز؛ عمران مُبعثر يضمّ أماكن عملٍ وسكن وتسوُّق وخلافه، كلٌّ منها في اتجاه. هذا الوضع يجعل السيارة هي الحلّ، والتحرّك الدائم بها بين نطاقات العمل، والسكن والدراسة والتسوّق والترفيه، هو نمط الحياة السائد. أثناء إعداد الإطار الوطني لتنمية قطر والخطة العمرانية الشاملة، تمّت بلورة فكرة التنمية العمرانية المرتكزة على النقل العام لتكون ركيزة التنمية في قطر وخاصة في حاضرة الدوحة الكبرى.

 تحوّل المترو في الدوحة إلى نسق حضري داخل المجتمع

ومع الفوز بتنظيم البطولة الكروية الأشهر عالمياً، خُصّص جزءٌ كبير من الميزانية المخصّصة للحدث من أجل إنشاء شبكة مترو متكاملة مكوّنة من أربعة خطوط، تُغطّي مدينة الدوحة الكبرى بالكامل، وتصل لكل المراكز الحيوية من جامعات ومجمّعات تجارية ومتاحف وفنادق ومراكز أعمال، بل وملاعب مثل "استاد خليفة"، و"استاد الوكرة"، و"استاد لوسيل"، و"استاد المدينة التعليمية".

خلافاً لحالة دبي ذات خطّ المترو الواحد المُخترق لشارع الشيخ زايد، تعلّمت قطر الدرس، ولذلك "مترو قطر" هو شبكة متكاملة تُغطّي كلّ مقاصد المدينة. وكلّ محطّة تتكامل مع مركز عمراني به مجموعة من الخدمات المجتمعية والترفيهية إلى جانب المناطق الخضراء والمفتوحة. وعندما تخرج من أيّ محطة تجد عدّة بدائل، منها خطوط "الأوتوبيسات" أو عربات الميكروباص التابعة للمترو، أو محطّات للتاكسيات، وكذلك ممرّات المُشاة والدرّاجات بالإضافة لأماكن انتظار كبيرة في بعض المحطّات لتسمح بفكرة "اركُن سيّارتك واركب المترو"، أو المواصلات العامة.
 
كما أنّ تصميم العربات من الداخل جعل رحلة ركوب المترو مقبولةً من الجميع مواطنين ومقيمين، حيثُ توجد سيارات مخصّصة للعائلات والسيّدات لمن يرغبن بخصوصية كاملة. وأصبحت عائلات قطرية تترك سياراتها وتتوجّه بالمترو إلى مناطق مثل: مشيرب، وسوق واقف التراثي. عائلة قطرية تركب المواصلات العامة، هذا ما لم يكُن متخيّلاً، ولكن التخطيط والإنفاق الرشيد وإرضاء المجتمع، غيّر السلوك. إذ أصبح الآلاف يتركون سياراتهم ويذهبون إلى أعمالهم وجامعاتهم وتسوّقهم في رحلات سريعة أنيقة وبكلفة زهيدة.

الشارع شريان لحياة إنسانية وليس محوراً لتمجيد السيارات

هذا عن الأداء، ولكن يبقى السؤال الذي نواجهه عادةً مع كلّ حديث عن المواصلات العامة ألا وهو: هل كانت كلفة المترو عالية؟ والجواب: أبداً. مع ذلك، يمكنُ أن نذهب بالتساؤل إلى حدوده المستقبلية لنرى إن كان سيختفي المترو بعد البطولة، وهذا أيضاً غير ممكن؛ لأنه يتحوّل بوتيرة متسارعة، إلى نسق رئيسي من أنساق التحرّك والتنقّل الحضَري داخل المجتمع.


الشارع في تصميمه الجمالي والإنساني 

القيمة الأهم والأبرز في المدن المُعاصرة عالمياً، هي صداقتها الحميمة للإنسان. فكلّ شوارع المدينة وميادينها وفراغاتها مُجنّدة من أجل تجربة مكانية جميلة للإنسان؛ الرجل والمرأة والطفل والمُسن وكذلك أُولي الاحتياجات الخاصة. واحد من أهم الكتب في التصميم العمراني الذي ناقش تموضُع الشارع في المدينة هو كتاب "تصميم الشوارع: السر لمدن ومستقرّات عظيمة". التساؤلات المهمة التي طرحت منها: ما هي العوامل التي تجعل بعض الشوارع جميلة وعظيمة ومحبوبة من سكان المدينة وزوارها؟ لماذا ننجذب إلى بعض الشوارع، ونحبّها ونتذكّرها ونعاود زيارتها، ولا نشعر بالمشاعر نفسها تجاه شوارع أُخرى؟ وهل حقّاً أنّ هذه الشوارع تجعل المدينة كلّها أفضل وأجمل وأكثر قرباً من الإنسان؟
 
يتوجّه العالم، اليوم، إلى فنّ تطبيق وتصميم شوارع صديقة للإنسان، وإلى إيمان كامل بأن الشوارع الجميلة، بل العظيمة هي السرّ الأكبر والأهم في أن تكون المدن مستقرّاتٍ جميلة. هذا التوجّه العالمي الذي يتحكّم بقوّة بأدبيات العُمران والتخطيط، يُعنى بفكرة خلق شوارع للإنسان وليس للسيارة. ومن هنا نبعت أهمية التعامُل مع الشارع كشريان للحياة الإنسانية، ومسرحٍ لأحداثها بدلاً من أن يكونَ مجرّد محورٍ مروري يحتفي بالسيارات ويمجّدها. إذن القضية ليست بوجود ممرّ للدراجات أو ممر للمشاة فقط، بل إنها نظرة أكثر شمولاً على الشارع، وكيف يصبح مفعماً بالأنشطة ومحفّزاً على الحركة ومفعّلاً للتواصُل المُجتمعي.
 
ما نريد طرحه هنا، أن القضية ليست استضافة وليست إنفاقاً، ولكن الحصول على أكثر درجات الاستفادة من تسليط الضوء على دولتك طوال أيام البطولة، والأهم هو ترك إرثٍ للأجيال القادمة بالإنفاق على سعادتهم وتطوير مُدنهم. واللافت، الذي لا بدّ لي من الإشارة إليه في ختام هذا المقال، أنّ الكثير من المختصّين الذين كانوا خلف رؤية تنمية قطر وخطّتها العمرانية الشاملة، والتعامل مع محطّات المترو وعلاقتها بالمراكز العمرانية، هم مصريون، وكاتب هذه السطور فخور جداً بهم وبمشاركتهم مشوارهم عن قرب.


* معماري وأكاديمي من مصر

المساهمون