علي باي العبّاسي.. جاسوس إسباني في فلسطين عام 1807

علي باي العبّاسي.. جاسوس إسباني في فلسطين عام 1807

06 اغسطس 2022
علي باي العباسي كما تصوّره الرسومات الأوروبية (ويكيبيديا)
+ الخط -

تُعدّ رحلة الجاسوس الإسباني الكتلاني دومينغو فرانثيسكو باديا (1767 - 1818) المتخفّي بشخصية علي باي العبّاسي، واحدة من أندر كُتب الرحلات عن البلاد العربية في مطلع القرن التاسع عشر، بعد سنوات قليلة من حملة نابليون على مصر وفلسطين، وتعيين محمد علي باشا والياً بصلاحيات استثنائية.

وضع باديا عدّة كتُب عن رحلاته التي شملت المغرب، وطرابلس، وقبرص، ومصر، والجزيرة العربية، وبلاد الشام، وتركيا بين العامين 1803 - 1807، منتحِلاً هيئة شريف حلبي في المغرب، وحاج مغربي في المشرق. واللافت أنه تعلم العربية ممّن تبقّى من المورسكيين في قرطبة عام 1792، حيث عمل مسؤولاً عن "مصلحة التبغ" في هذه المدينة الأندلسية. وكانت هذه الخطوة هي الأولى له على طريق عمله كجاسوس لمصلحة الملك الإسباني الذي كلّفه بتسهيل احتلال إسبانيا للمغرب.

ومن أجل ذلك سافر باديا إلى لندن واختَتن على يد طبيب يهودي، ثم توجّه نحو المغرب متنكّراً بِزيٍّ عربي، مدّعياً أنه من الأشراف الحلبيين. وكانت مهمّته إقناع السلطان المغربي مولاي سليمان بن محمد بقبول الحماية الإسبانية، وذلك هرباً من الطامعين الفرنسيين والإنكليز باحتلال المغرب كما قال للسلطان. وبعد أن فشل مخطّطه، أشعل فتنة داخلية كان هدفها إضعاف السلطان المغربي وحصل على تمويل كبير لها من الملك الإسباني.

فيما بعد عمل باديا في خدمة الفرنسيّين، وعرض مشروعه لاحتلال المغرب على نابليون بونابرت، وكان ذلك في 10 أيار/ مايو عام 1808، وبتشجيع من الملك كارلوس الرابع المخلوع. لكنّ نابليون شكّك فيه وبعث معه رسالة توصية إلى شقيقه جوزيف بونابرت. وقبل أن يباشر مهمّة لصالح الفرنسيين في العام 1818، قام البريطانيون بتسميمه في دمشق بعد أن اكتشفوا شخصيته الحقيقية فدسُّوا له السمّ في فنجان قهوة.

صدرت رحلة علي باي العبّاسي بطبعة فرنسية من ثلاثة مجلّدات في حياة المؤلّف، كما صدرت طبعة إنكليزية بمجلّدين عام 1816، وقد تُرجمت إلى العربية أجزاءٌ متفرّقة منها، ولكنها لم تصدر حتى الآن بطبعة كاملة.  


من القدس إلى يافا

بعد أن زار مكّة المكرمة مدّعياً أنه حاج مسلم، وصل باديا إلى القدس قادماً إليها من غزة، ومكث فيها فترة من الزمن زار خلالها جميع المزارات المسيحية المقدّسة، قبل أن يغادر من باب العامود إلى يافا يوم الأربعاء 29 تمّوز/ يوليو 1807. وفي طريقه إلى يافا رأى في قرية العنب كنيسةً قديمةً مهجورةً، ذات ثلاثة صحون. وتابع صعوده إلى قرية ساريس ومنها إلى ما يشبه مخيّماً من الأكواخ قيل له إنه يخصُّ عائلة أبو غوش، وقال إن أهل هذه الأكواخ كانوا آنذاك يدرسون القمح، فوقف بضع دقائق قرب بئر من الآبار الأربع التي تحمل اسم "بيار أيّوب"، وكانت مياهها خضراء قذرة، كما يقول.

وفي المساء وصل إلى يافا، فوصفها لنا كما يلي: "يافا بلدة صغيرة تحيط بها تحصيناتٌ على شيء من الإتقان، وهي قائمة على رابية، وبإمكانها أن تقاوم مقاومة منظّمة. ففي الزاوية الجنوبيّة حصنٌ كبير وبضعة أبراج متوّجة جميعها بقطع المدفعيّة لحماية السّور، غير أنّ هذا السّور قليل الكثافة. في الحامية عدد كبير من الجيوش التركية والمغربية، والخدمة العسكرية اليوم تحظى بالعطية الكافية، وذلك لأنّ الحاكم جندي ممتاز. لا يصلح المرفأ إلا لاستيعاب السفن الشاطئية الصغرى التي تبحر نحو سورية، أمّا السفن الكُبرى فإنها ترسو خارج المرفأ، وإنّها تلقي مرساة واحدة لتبقى على استعداد دائم لرفع السلك عند أوّل عصفة ريح؛ لأنّ الشاطئ مُعرّض وخَطِرٌ جداً".

الصورة
حضار نابليون - القسم الثقافي
أسطول نابليون يُحاصر عكا، لـ ليليتيا بيرن، 1825 (Getty)


وصف عكّا

أبحر رحّالتنا من يافا على متن مركب رسا يوم الجمعة 31 تمّوز/ يوليو، في مرفأ عكّا التي تميّزت أثناء ولاية الجزّار بمقاومتها الشديدة لهجمات الفرنسيين، الأمر الذي حقّق رأي العسكريين العالي في هذه النقطة، كما يقول.

ويضيف: "لقد زيدت التحصينات أخيراً زيادة عظمى منذ الحصار الأخير، ولم يكن فيها سابقاً غير القلعة أو قصر الجزّار على مسافة وجيزة من السور لجهة البرّ، والمتاريس الخارجيّة، وقد زيد على هذه خطٌّ جديد من الأسوار عظيمة الكثافة، على النمط الأوروبي، وهي تحيط بالخطوط القديمة. والحصون الحديثة البنيان قصيرة المرمى، وما يبرز منها معرّض لنيران العدوّ؛ لأنّ الزوايا الخلفيّة أو الجانبيّة فضلاً عن الحواجب شديدة الانفراج. يحمي الأسوار مزلَقُ خندقٍ حجري، وخندق وجدار مبطّن بمزلق مواجهٍ للأوّل، ونفق صغير منحدر أو فسحة أمامية. ولا يتناسب علوُّها مع علوّ السور ممّا ينتج عنه بعض الأضرار بالنفق إذا ما أطلقت النيران من المتاريس. وعلاوة على هذا الخطأ في التنظيمات الدفاعية عن البلد فإنّ نمط التحسينات الجديدة لا يزال ناقصاً، فليس هُناك ممرّات مغطّاة ولا غيرها من التنظيمات الخارجية، ولم ينجز من التحصينات الجديدة الشرقية غير النصف. أمّا التحصينات الشمالية فقد اكتُفي بإعادتها إلى حالتها السابقة. والبحر يحمي الجهتين الغربية والجنوبية".

ولاحظ باديا أن المرفأ ضيّق للغاية وماءه قليل، غير أنّ هناك مجالاً واسعاً لرسوّ السفن في جوار الطريق المؤدّية إلى حيفا، وبإمكانه إيواء الأساطيل العظيمة، إلّا أنّه لسوء الحظّ مُعرَّض لجميع الأرياح.


جامع الجزّار

يلفتُ نظرَ باديا جامعُ الجزّار الذي رآه أشبه بحديقة منه إلى مكان للعبادة، وفي وصفه يقول: "تحيط بالفناء القناطر، أو الأروقة ذات القبب الصغيرة المركّزة على الأعمدة، وهو عبارة عن حديقة بهيّة المنظر، في وسطها فسقية طريفة للغاية، تأتيها المياه من أحد الصهاريج. والجامع مقابل الحديقة، وهو مربّع الشكل، أمامه رُواق من القناطر القائمة على الأعمدة، داخله مزدانٌ بالأعمدة يتّكئ عليها رواق يستدير حول الجوانب الداخلية حتى القسم الأمامي الداخلي الذي يقوم فيه المحراب، ومنبر الخطبة. وترتفع في الوسط قبّة بديعة الشكل".

ويتابع: "البناء مبطّن بالمرمر والزخارف العربية البديعة، والأعمدة من أبدع المرمر وأندره، غير أنّه خال من مظاهر العظمة، وليس فيه ما يملأ العين بروعة الهيكل القديم. هنالك بعض الغزلان في الحديقة، وهي تقفز وتنفر هُنا وهُناك بحُريّة كاملة".

الصورة
جامع الجزار- ويكيبديا
جامع الجزار (ويكيبيديا)

ويشير إلى شحّة مياه عكّا في الوقت الحالي، ولكنّه يذكر أنّ مياهها كانت في الماضي ممتازة، وكانت تصلها بواسطة قناة من نبع يبعد عن المدينة مسافة فرسخ ونصف، "غير أنّ الفرنسيين في حملتهم الأخيرة على مصر أغاروا على هذا المكان، وأغلقوا القناة، ولم تفكّر الحكومة التركية بعد ذلك بإعادتها إلى ما كانت عليه. وبالتالي، فقد اضطرّ السكّان بعد ذلك إلى الشرب من مياه الآبار، وهي مشبعة بملح السيلينيوم والرصاص".


الجزّار وخليفته

يبدو أنه جمع معلوماتٍ وانطباعاتٍ عن الوالي الراحل حديثاً أحمد الجزّار، ويقول في ذلك: "من مُجمل ما رأيته وسمعته عن الجزّار باشا يتبيّن لي أنّ الطبيعة وهبته فكراً نيّراً. غير أنّه كان مملوكاً خالي الذهن من أيّ ثقافة، عدا ثقافة السائح، ينقاد انقياداً تاماً لعاطفته التي كانت تجمح به نحو الخير تارة، ونحو الشرّ أُخرى، فلا تسمح له بالبقاء عند الحدّ الوسط".

أمّا الوالي الحالي سليمان باشا فيقول عنه: "كان من مماليك الجزّار واسمه سليمان، فقد بدا لي رجلاً طيباً حسن السريرة، وافر الاعتدال، وهو عذب الحديث، جميل الخَلق، وحسن الشمائل. وزيره الأوّل يهودي على شيء عظيم من الجدارة كما يبدو". ويقول إن الأوروبيين ينعمون في عكّا بحُرية زائدة، ودرجة عظيمة من التقدير إنْ من جهة الحكومة، أو من جهة الشعب الذي يتكوّن من خليط عربي - تركي.


قصّة غريبة

يُخبرنا رحّالتنا عن قصة غريبة كان مدير الجمارك، وهو يهودي اعتنق الإسلام، يتعرّض لها، وهي تساقُطُ الحجارة على منزله في الليل كلّ يوم لم يتسنّ لأحد أن يتبيّن مصدرها. فأقام بعض الحرس على السطح وحول البيت، غير أنّ الحصى ظلّت تسقط كالمعتاد.

ويقول: "كنت مقيماً في البيت المجاور لبيت المدير، فسألت عن ذلك بعض الجنود المكلّفين بالحراسة، فأروني عدداً من الحصى فتبيّن لي أنّها من النّوع الطبشوري المحلّي. فأدركت بسهولة أنّها حيلة تلعب عليه لأنّه كان هلوعاً يختبئ وراء الباب الموصد. وفي الليلة التالية جاء أحد الحرس بحجر زنته نحو ثلاثة باوندات، وأعلمني أنّه سقط على ظهره يتّقد مستعراً، فتأكّد لي أنّ الجنود كانوا شركاء في الظاهرة العجيبة المفتعلة. فكلّمتهم بجدّ، وانقطع بعدئذ سيل الحصى عن المسلم الجديد".

الصورة
الناصرة - القسم الثقافي
رسم للناصرة مطلع القرن التاسع عشر، (Getty)

ويصف لنا موقع المدينة بقوله: "تقع المدينة إلى الطرف الشمالي من جون كبير وتتّجه جنوباً. كان الحرّ لا يُطاق أثناء إقامتي فيها. يظهر جبل الكرمل في طرف الجون الجنوبي، وهو قليل الارتفاع، ويمتدّ باتجاه شرقي غربي نحو البحر. يحتلّ دير الروم قمّته الغربية المجاورة للبحر، هذا الدير على اسم مار إلياس. وهُناك دير كاثوليكي كبير على مسافة وجيزة نحو الشرق على اسم القديس ذاته عند منتصف الطريق تحت الدير اليوناني جامع على اسم النبي عينه. ويُدعى الخضر هُنا. إلى الشمال الشرقي من الديرين تقع قرية حيفا، ومرسى السفن الكبرى قريب منها". 


إلى الناصرة

في السابع من آب/ أغسطس غادر باديا عكّا برفقة بعض الأصحاب، واتجه شرقاً نحو الناصرة، وبعد ساعتين توغّلوا في منطقة جبليّة، وسرعان ما رأوا أنفسهم في غابة باسقة الأشجار، قائمة بين الجبال. وكانت القرى والأكواخ مع حقولها ومواشيها تنوّع شكل الطريق. ولم يتيسّر الماء لهم إلّا في الآبار. وقبيل وصولهم إلى الناصرة مرُّوا بالقرب من مزار قائم على رابية يقال إنه بيت والدَي العذراء مريم. ولم يصلوا إلى الناصرة حتى الرابعة بعد الظهر، وفور وصوله توجه إلى دير الرهبان الفرنسيسكان رأساً لينزل هُناك.

وفي وصفه للناصرة يقول: "ناصرة الجليل بلدة مفتوحة غير محصّنة، وهي قائمة على سفح رابية تتّجه نحو الشرق. ويبدو أنّ عدد سكّانها ثمانمئة أسرة. يمكن تقدير المسلمين فيها بنحو ألف نسمة من الأرقام التي حصلت عليها، ومثلهم عددُ المسيحيّين. وليس في مظهر البيوت ما يستحقّ الملاحظة، فهي مبنيّة على سفح الجبل. والحالة هذه، فإنّ الأهلين يستفيدون من هذا الوضع فيحفرون قبل البناء، ويقوم كلّ بيت بهذه الطريقة على طبقة تحت الأرض".


انسجام مسيحي إسلامي

ويتابع متحدّثاً عن الانسجام بين أهالي الناصرة في العادات والتقاليد: "عدد اللاتين، بين النصارى يفوقُ بكثير عددَ باقي الطوائف، غير أنّ الوئام التام يسود بين جميع الأفراد من مختلف النِّحل، تخرج المسلمات سافرات، أمّا الأعياد والألعاب والملاهي فإنّها مشاعة للجنسين، ولأفراد مختلف المِلل. اللحوم والخضر والأثمار كلّها من الصنف الجيّد. يصنعون هُنا خبزاً ممتازاً، وعلى الأخصّ في الأديرة، حيث المياه أيضاً ممتازة. وهي تأتي من نبع في طرف المدينة الشمالي الشرقي. وللدير أيضاً صهاريج بديعة لماء المطر، وحديقة صغيرة. يتمتع الرهبان بقدر من الحرية لا يقلّ عمّا هو مساوٍ له في أيّ بلد أوروبي. فهم يحملون علناً الأسرار المقدّسة إلى المرضى. وهم محترمون جداً من أفراد باقي الديانات. ولا بدّ من التصريح وفقاً للمعلومات التي استقيتها بأنّ سلوك هؤلاء الرهبان مثالي حقاً، وجدير تماماً بالإكرام الفائق الذي يتمتّعون به".


وصف الدير

يصف لنا الدير بقوله: "الدير صرحٌ بديع وفسيح، حسن التوزيع، ومتين إلى درجة يمكن استعماله مركزاً عسكريّاً ممتازاً. وسط الكنيسة الفاتنة والطريفة معاً، درج من المرمر كبير وفخم يؤدّي إلى المغارة التي تمّ فيها سرّ التجسّد العظيم. وإلى الجانبين درجان ضيّقان يصعدان إلى المذبح الكبير المركز على الصخرة. هذا الصخر يؤلّف عند القبو. جوقة الرهبان تحتلّ المكان الخلفي، وبذا تصبح الكنيسة على ثلاثة مستويات. مستوى المغارة وهو الأدنى، ومستوى صليب الكنيسة وهو الوسطي، ومستوى المذبح الكبير وهو الأعلى. وهناك أيضاً مستوى رابع فوق مستوى الجوقة، وهو أشبه بعنبر وضع عليه أرغن ممتاز، يصعدون إليه بدرج من مكان الجوقة. جميع هذه المستويات قائمة على الصخر. وفي المغارة منزل مريح فخم التزيين، في وسطه مذبح مظلّل بالمرمر الأبيض البديع قائم على أربعة أعمدة صغرى، ووراءه مذبح آخر. وهُناك درج ضيّق منحوت في الصخر يؤدّي إلى مغارة ثانية يُقال إنها كانت مطبخ بيت العذراء، بسبب وجود وقيدة أو مدخنة في إحدى الزوايا. ويمكن الصعود إلى الدير بدرج آخر شبيه بالأوّل. تتألّف هذه الرهبنة من ثلاثة عشر راهباً، تسعة منهم، ومن جملتهم الرئيس إسبان".

ومن الأشياء التي تلفت نظره أن هذا الدير يحظى باحترام المسلمين الذين كثيراً ما يأتونه للصلاة. ويقول إنه شاهَد بنفسه يوماً عدداً من القرويين المسلمين قادمين باحتفال، ترافقهم النوبة ليقدّموا ولداً إلى العذراء وليقصّوا شعره في المعبد لأوّل مرّة.

وفي هذا الجزء من الرحلة يستعرض باديا معطياتٍ إحصائية حول عدد الرهبان وتبعياتهم والضرائب المستحقّة على الدير وما إلى ذلك من معلومات يبدو أنه استقاها من وثائق قُدّمت له بما في ذلك الرباط الصوفي الإسلامي المجاور لسكن الرهبان. ويخلص إلى أن "هذا الدير على ما فيه من غمرة الكآبة، وضيق النفس، يظلّ مقبولاً لولا جوار الدراويش المسلمين الذين تشرف نوافذهم على المعبد والدير. وهؤلاء بفضل ما تعوّدوا الحصول عليه من حلوان وهدايا الرهبان المسيحيين، ولكونهم يرغبون بزيادة الكميات المخصّصة فإنّهم لا يهملون أيّ وسيلة توصلهم إلى غاياتهم".

المساهمون