عصر المقصلة

عصر المقصلة

08 مارس 2024
عائلة فلسطينية تتفقّد أضرار منزلها في رفح بعد القصف الإسرائيلي، 5 آذار/ مارس 2024 (Getty)
+ الخط -

في رواية "عصر الأنوار" للروائي للكوبي أليخو كاربنتييه، الصادرة بترجمة منصور أبو الحسن، يحمل المفوّض من الحكومة الفرنسية الجديدة، حكومة الثورة الفرنسية، فيكتور هوغ، مرسوم إلغاء الرقّ، والمساواة في الحقوق، الممنوحين لجميع سكّان الجزر في أميركا اللاتينية (غواديلوب، وغويانا) دون تفرقة في العرق أو الوضع الاجتماعي.

المفارقة في الأمر هي أنّ هذا "المُحرِّر" يذهب في طريقه لاحتلال تلك الجزر، وسوف تظلُّ محتلَّة إلى يومنا هذا. لكن المفارقة الثانية العجيبة التي يشير إليها الروائي إنّما هي أنّ هوغ هذا يسير على ظهر السفينة بخطى ثابتة، بعد أن يعرض المرسوم أمام بحّارته، أو جنوده، ليرفع الغطاء المطليّ بالقار الذي يستر تلك الآلة الفظيعة التي اخترعتها الثورة الفرنسية: المقصلة. يعلّق الروائي قائلاً: "ذلك كان فيكتور هوغ المتحوِّل إلى رمز... فمع الحرية وصلت أوّل مقصلة إلى العالم الجديد".

إذا كانت تلك هي رحلة التنوير، أو مزاعم التنوير، إلى أميركا اللاتينية، فما الذي قدّمه لنا الغرب، إذ كانت الثورة الفرنسية هي فاتحة الثورة البرجوازية وعهد الاستعمار معاً؟ إذا كان فيكتور هوغ حمل معه مراسيم الحرّية والمِقصلة إلى أميركا اللاتينية، فإنّ الغرب الإمبريالي لم يترك لدينا غير "الجروح العميقة"، بحسب تعبير نصر حامد أبو زيد. 

وصلت أوّل مقصلة إلى العالم الجديد مع الحرية والمساواة في الحقوق

وفي الأحداث اللاحقة لوقائع الرواية، كذبت فرنسا، والغربُ من بعدها، على التاريخ كثيراً، من نابليون الذي احتلّ مصر، وأراد احتلال بلاد المشرق العربي، إلى معاهدة سايكس بيكو والاحتلال العسكري لبلاد الشام في القرن العشرين، إذ كانت تزعم أنّها صاحبة المبادئ التي قدّمتها الثورة الفرنسية، ثورتها، وكان نابليون نفسه، صورةً أُخرى عن بطل رواية "عصر الأنوار"، فاحتلّ مصر، وقدّم لها منشوره الشهير عن الحرية.

واللافت أنّ نابليون لم يُحضر معه مِقصلة، إذ يبدو أنّ اختياره وقع على المدافع والبنادق، التي تُمثّل رمزيّاً مهام المقصلة بالتأكيد، إذ راحت تدكّ أسوار ومنازل المدن المصرية. كما مثّل الجنرال غورو الوجهَ القبيح لرغبة الغرب في تصدير التنوير، عبر الاحتلال العسكري لسورية ولبنان، الذي زعم أنّه انتداب غرضه تمديننا.

مثّل غورو ونابليون الوجهَ القبيح لرغبة الغرب في تصدير التنوير

وإذا كان فيكتور هوغ في رواية "عصر الأنوار" يستطيع التخلّص من إرث الثورة التنويري ومن المبادئ التي نادت بها، وأهمّها مبادئ الحرية، فيتحوّل إلى طاغية، وهو تقليد يكاد يستغرق مآلات الثورات كلّها، فإنّ شخصية اصطفان، ومِن بعده صوفيا، التي ساهمت في الثورة المضادّة وساعدت فيكتور هوغ قبل أن تتراجع - وهما الشخصيتان المحوريّتان في الرواية - تبقيان مخلصتين لتلك القيم، وتدافعان عنها، في وجه الفرنسيّين أنفسهم حين اقتحموا مدريد. يقول اصطفان لصوفيا: "لا تكوني غبيّة، إنّها حرب بارود ومدفعية. من أجل من ستقاتلين؟"، تقول: "ضد الوحوش المفترسين الجدد".

وفي النهاية يترك الروائيّ كُلّاً من اصطفان وصوفيا مجهولي المصير، ويترك النهاية غامضة: "لا صوفيا ولا اصطفان عادا... لم يستطع أحدٌ معرفة مصيرهما".

ولكن التاريخ اللاحق كان يعرف ذلك جيّداً، حين انقلبت الحكومات على المبادئ، وما زالت تفعل ذلك بكلّ وقاحة، كما هي عليه اليوم في الموقف من حرب الصهاينة على الفلسطينيّين.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون