الأمس واليوم

الأمس واليوم

16 فبراير 2024
متطوّعون في "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي عام 1948
+ الخط -

حين كنّا ندرس تطوّرات القضية الفلسطينية، في فتوّتنا، كنّا نظنّ أنّ الصهاينة قد استفردوا بـ فلسطين والفلسطينيّين في ظلّ الغياب الكامل للأخبار التي يجب أن تذيع ما كانوا يرتكبونه من مذابح، وعدم وجود وسائل الإعلام كالتلفزيون والراديو، ووسائل التواصل، وتجاهل الصحافة في العالم لما يحدث، أو عدم اطّلاعها، وعجزها عن الوصول إلى أوسع مجال للقراءة، وفي ظلّ الحماية البريطانية الكاملة، والتأييد الدولي من أميركا إلى الاتحاد السوفييتي بعد إنشاء كيان الصهاينة، وفي ظلّ التخاذل العربي، وضعف إمكانيات الجيوش العربية، أو غياب الاستعداد والرغبة في التدخّل.

ويمكن للمرء أن يستعيد تلك الأيام كي يقول: لقد كانت لدى العربي القدرة على أخذ المبادرة، والتطوّع في جيش أهلي تشكَّل على عجل، بمبادرات فردية على الأغلب، وانخرط فيه شبّان من وجهات متنوّعة، من بينهم عسكريون تركوا الخدمة، ومتقاعدون من الجيش، وأطبّاء، وأعضاء في البرلمان، ومقاتلون من كلّ مكان، دوافعهم وطنية بحتة لا تُنهكها الشعارات، ولا الالتزامات الحزبية، ولا حسابات السلطة. وأطلقوا على جيشهم المستعجل اسم "جيش الإنقاذ"؛ وهي تسمية تحتفي بالمقاتلين الطموحين، والأرض العربية التي كانت تُسلب أمام أعينهم.

من بين أولئك الذين تطوّعوا في هذا الجيش أحد أعمامي، وقد أُصيب برصاصة في فخذه على مشارف بلدة شفا عمرو الفلسطينية، وكان في هذا الجيش الروائي والقاصّ عبد السلام العجيلي. وبسبب انعدام تقاليد كتابة المذكّرات لدينا، حُرمنا من ذكريات عمّي مثلاً، والذي كان يقتصر في رواية ذكرياته على الشفهي الذي يستعيده بحسب المناسبات، ولم يكتب العجيلي عن تجربته هناك إلّا في مرحلة متأخّرة من عمره، ولم تُنشر مذكّرات فوزي القاوقجي، القائد العام لذلك الجيش، حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

حالة من الاستسلام رسّختها هزيمة الثورات العربية

ولمثل هذه الأسباب، كما كنّا نظن، تأخّرت أخبار المذابح التي ارتكبها الصهاينة في القرى والمدن الفلسطينية، الطنطورة، ودير ياسين وغيرها، ولم يسمع بها الرأي العامّ العربي والأجنبي، فتمكّنت من المرور بسرّية إلى الصفحات المجهولة من التاريخ..

وربما كنّا قد تخّيلنا أنّه لن يكون بوسع الصهاينة إعادة المذبحة والتهجير مرّةً أُخرى، بفضل وجود كلّ هذه القوّة الإعلامية في العالم، وفي عالمنا العربي، التي ستكشف ممارساتهم العنصرية، أو عملياتهم الوحشية. فالصحافة تتّصف بالنزاهة والصدق في التوثيق، ورفض تزوير الحقيقة، أو عدم نشرها.

لم يتغيّر شيء. لا تزال "إسرائيل" ترتكب مذابح أكثر قوّة ووحشية، والجديد المختلف اليوم هو أنّ معظم الصحافة الغربية نفسها تتواطأ مع الجريمة، وتُزوّر الحقيقة. أمّا الأخطر، فهو أنّ العربي خسر قوّة المبادرة والقدرة على تنفيذها، هذا إذا لم يكن قد وصل إلى عدم الرغبة في اتخاذ إجراءات تُعزّز تلك القدرة، وقد تكون هذه الحالة، وهي التي يمكن أن نطلق عليها حالة الاستسلام، واحدة من أخطر ما نجحت في ترسيخه هزيمة الثورات العربية.

ويمكن لمن يتتبّع الشفوي في الحياة العامّة، وربما لدى بعض ناشطي وسائل التواصل، أن يلاحظ تسلُّل هذا الوضع الكارثي إلى العقلية العربية التي أُنهكت من الضربات التي تتوالى من الداخل، ومن الخارج معاً.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون