رحيل شوقي جلال.. الثقافة العربية وهمومها

رحيل شوقي جلال.. الثقافة العربية وهمومها

19 سبتمبر 2023
شوقي جلال (1931 - 2023)
+ الخط -

في كتابه "الترجمة في العالَم العربي: الواقع والتحدّي في ضوء مقارَنة إحصائية واضحة الدلالة"، الصادر عن "المجلس الأعلى للثقافة" عام 2010، طَرح الكاتبُ والمُترجم المصري شوقي جلال، الذي غادر عالمنا أوّل أمس الأحد، أسئلة عن موقع الترجمة داخل الثقافة العربية وطبيعة موقف الأخيرة منها، ليُقدّم قراءة نقدية مُقارِنة للحياة الثقافية والفكرية العربية من خلال الترجمة، باعتبارها "مُؤشّراً على موقفنا من المعرفة".

ربط صاحبُ "التراث والتاريخ: نظرة ثانية"، في هذا الكتاب، بين الترجمة وطبيعة الثقافات المجتمعية، والتي ميّز بين نوعَين منها؛ سمّاهُما "ثقافة الوضْع" و"ثقافة الموقف"؛ فالأُولى تبدو "قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخي الموروث، ولا تتجاوز المعرفة عندها حدودَ تأمُّل هذا الرصيد"، بينما في الثانية "عزمٌ على التغيير والتجديد، وفهمٌ لمجريات الأحداث والظواهر، وتراكُمٌ متجدِّد متطوِّر لرصيد المعلومات والمعارف". وهو، هنا، يضع الثقافة العربية ضمن النوع الأوّل؛ حيث "نقنع بنرجسية الثناء على اللغة العربية، ونتقاعس عن الإبداع والترجمة. والأزمة ليست أزمة لغة، بل أزمة الإنسان/ المُجتمع العربي".

ورأى جلال، الذي وُلد في القاهرة عام 1931، أنّ التراث العربي التاريخي في الترجمة يُؤكّد أنّ "ما كان في لحظة من الزمان كان عظيماً بكُلّ مقاييس زمانه، ولكنّه مضى مثل سحابة صيف، ولم نسأل: لماذا؟"، وأنَّ قصّة الترجمة في التاريخ العربي تعكس ما سمّاه موقفاً ثقافيّاً اجتماعياً سلبيّاً من المعرفة.

يعكس وضْعُ الترجمة عربيّاً برأيه موقفاً سلبياً من المعرفة

كما ربط ازدهارَ الترجمة بتوفُّر شرْط الانفتاح على فكر الآخر والتفاعُل مع ثقافته، مُشيراً إلى أنّ التاريخ العربي والإسلامي شهد خطَّين متوازيَين ومتضادَّين فيما يتعلّق بهذه المسألة: منفتحٌ على الآخر، ومنغلقٌ بحُجّة الحفاظ على "ثوابت الثقافة العربية"، وأنّه "إذا عدنا إلى التاريخ العربي والإسلامي التماساً لفهم الترجمة ودَورها في المجتمع، نرى بوضوح مظاهر هذا الصراع ونتائجه".

وعلى نحوٍ موجز، عاد جلال إلى مُختلف المراحل التاريخية التي مرّت بها الترجمة العربية؛ منذ "بيت الحكمة" في عصر المأمون إلى بداياتها -بعد عصور من الانكفاء والوهن الحضاري- خلال العصر الحديث في مصر ولبنان، ثُمّ ظهور مراكزَ جديدة غير المركزَين التقليديَّين: الكويت وسورية والعراق والسعودية، ثمّ الإمارات وقطر لاحقاً، مع اهتمامٍ بها في الجامعات العربية، مُعتبراً أنّ ذلك يعكس إدراكاً عربيّاً رسمياً لدَور الترجمة وتدنّي وضعها، ولكن في حدود الإدراك النظري للوضْع، ومن دون أن يصدقه سلوكٌ عملي ووعي قومي، مُنتقداً مراكز ومنظَّمات ومؤسَّسات الترجمة التي يرى أنّها، في الحقيقة، ليست سوى دُور نشر.

ومن الاستنتاجات التي أوجزها جلال في كتابه أنّ أكثر البلدان العربية حديثة عهدٍ بالترجمة، بينما تغيبُ بلدان عربية بأكملها عن خريطة الترجمة، وأنّها نشاطٌ فردي في الغالب، وأنّ نسبة الكِتاب المترجَم أقلُّ من عشرة في المئة من إجمالي الإصدارات العربية، وهي لا تمثّل سوى أربعة في الألف من الإصدارات المترجمة عالمياً، وأنّ الغالبية العظمى ممّا يُترجَم لا تربطنا بما يُسمّى العلوم الأساسية، إضافة إلى غياب إحصاءات ببليوغرافية، وأدلّة للمُترجمين وتخصُّصاتهم وترجماتهم، ودراسات تحليلية ومقارنة للترجمة، مُعتبراً، في هذا السياق، أنّ النهوض بالترجمة لا يكون إلّا بشرطَين: عقدُ العزم المجتمعي على إنجاز نهضة شاملة دون قيود من خارج المنهج العِلمي، وأولوية إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان العربي، في إطار رؤية عِلمية نقدية.

رأى أنّ مصر لم تَعُد مجتمَعاً، بل تجمُّعاً سكنيّاً

يُمثّل الكتابُ اشتغالاً نظرياً ضمن حقلٍ قدّم فيه شوقي جلال عدداً كبيراً من الكُتب الأدبية والفكرية؛ من بينها: "المسيح يُصلب من جديد" (1970) لـ نيكوس كازانتزاكيس، و"العالم بعد مئتي عام" (1982) لـ هرمان كان، و"بنية الثورات العلمية" لتوماس كون (1992)، و"لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة" (1998) لـ مايكل كاريدتزس (1998)، و"الآلة قوّة وسُلطة: التكنولوجيا والإنسان منذ القرن 17 حتى الوقت الحاضر" (2000) لـ آر. إيه بوكانان، و"التنمية حرّية: مؤسَّسات حُرّة وإنسان مُتحرّر من الجهل والمرض والفقر" (2004) لـ أمارتيا صن، و"كامي وسارتر" (2006) لـ رونالد أرنسن. و"الفيل والتنين: صعود الهند والصين ودلالة ذلك لنا جميعاً" (2009) لـ روبن ميرديث، و"لماذا العِلم" (2010) لـ روجر نيوتن، و"تاريخ العلم 1543 - 2001" (2012) لـ جون غريبن.

ويتقاطعُ الكتاب أيضاً مع مؤلَّفات جلال الأُخرى، والتي تندرج ضمن ما يُسمّيه "مشروع الانتقال إلى العقل العلمي والتحوُّل عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل"؛ وهي أربعة عشر كتاباً من بينها: "نهاية الماركسية" (1994) الذي انتقد فيه تعامُل الثقافة العربية النصّي الأرثوذكسي مع الفكر العالمي، و"التراث والتاريخ" الذي قدّم فيه رؤية نقدية لما اعتبرها أخطاءَ ثقافية في مقاربة العقيدة والموروث الثقافي وفهم التاريخ، و"العقل الأمريكي يُفكِّر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات" الذي أضاء فيه على تطوُّر العقل الأمريكي على مدى 160 عاماً.

ومن كُتبه الأُخرى نذكر: "على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم" (1997)، و"الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل" (2002)، و"المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية للفكر العربي" (2005)، و"أركيولوجيا العقل العربي: البحث عن الجذور" (2009)، و"الشكّ الخلّاق: في حوار مع السلف" (2013). 

إلى جانب التأليف والترجمة، كتب شوقي في عددٍ من الصحف والمجلّات المصرية والعربية، وعمل في هيئات ثقافية عدة، مثل "المجلس الأعلى للثقافة" في القاهرة، و"المعهد العالي للترجمة" في الجزائر، وحاز جوائز أبرزها "جائزة رفاعة الطهطاوي" من "المركز القومي للترجمة" عام 2018 عن ترجمته لكتاب "موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا".

هذه التجربة الطويلة سيعود إليها الكاتبُ والمترجم المصري الراحل في نصّ سيري موجَز بعنوان "سنوات العُمر وحصاد الهشيم"؛ تحدَّث فيه عن حياته وكتاباته وترجماته؛ عن دراسته في ثانوية خيرية بسبب الفقر، وعن الاعتقال السياسي الذي بلغ مجموعُ سنواته اثنتَي عشرة سنة بين 1948 و1965: "حاوَلتُ أن أنتصر على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقَلات، من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل؛ حيث كنّا نعيش حفاة الأقدام، شبه عُراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذعة، والشتائم المهينة الجارحة، ولم أتخلّ عن طموحي وجهدي من أجل مصر.. مصر العقل الجديد".

وفي هذا النصّ، يُخبرنا أنّه بدأ الكتابة أوّلَ الأمر وهو طالبٌ جامعيّ، في سلسلة "كتابي" التي كان يُصدرها حلمي مراد (1920 - 2001)، وكان أوّل موضوع كتبَه عام 1953 بعنوان "مُذكِّرات الولد الشقي"؛ وهو تلخيص لمذكّرات تشارلز داروين، لكنّه لم يره بسبب الاعتقال. ولتجنُّب المنع، "رأيتُ أن أتكلَّم بلسان غيري، مع إضافة رأيي في مُقدّمة وهوامش؛ ومن هنا اتّخذتُ الترجمة وسيلة لكي أبدأ مشروعي". وهكذا، صدر له، عام 1957، كتابان عن "دار النديم"؛ هُما "السفر بين الكواكب" و"بافلوف، حياتُه وأعمالُه"، ثمُّ توالت الترجمات التي يقول: "لا يعنيني كمّيتها التي تجاوزت الستّين، ولكن يعنيني أنّها مختاراتي من بين قراءاتي، وملتزمة جميعها بمشروعي".

ويختتم شوقي جلال نصّه بغصّة: "الآن وقد تجاوزتُ التسعين من العمر، أنظُر إلى الحياة نظرة مودِّع. أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحو غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تَعُد مجتمَعاً، بل أصبحت تجمُّعاً سكنيّاً، وقد أُضيفُ ما أضافه لي الصديقُ الأجلُّ أنور عبد الملك، وهو أنّها باتت تجمُّعاً سكنيّاً لغرائز مُنفلِتة.. أفتقد مصرَ الحلم الحافز، مصر الوعي الموحّد تاريخيّاً، مصر الوطن والمواطَنة، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية.. مصر المستقبل.. أفتقد كلّ هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب".

موقف
التحديثات الحية
 

المساهمون