ذكرى ميلاد: فرانز فانون.. ما يدين به الفكرُ للغضب

ذكرى ميلاد: فرانز فانون.. ما يدين به الفكرُ للغضب

20 يوليو 2021
فرانس فانون في عمل لـ فؤاد هاشمي، مواد مختلفة على قماش
+ الخط -

إذا كانت حياة المفكّر والطبيب النفسي المارتينيكي فرانز فانون قصيرةً بعدد السنين، وهو الذي رأى النور 36 عاماً فحسب، فإنّ تأثير تجربته وأعماله ما يزال مستمرّاً حتى يومنا هذا ــ بل إن أثره يزداد حضوراً منذ سنواتٍ قليلة. فها هي ذكرى ميلاد صاحب "معذّبو الأرض" (وُلد في العشرين من تمّوز/ يوليو 1925 في فور ـ دو ـ فرانس بجزيرة مارتينيك، ورحل عام 1961 في مستشفىً قرب واشنطن) تأتي اليوم في وقتٍ يُستعاد فيه اسمُه في أكثر من مكان ومناسبة: من صدور ترجمة برتغالية في البرازيل لكتاباته السياسية قبل أيّام عن منشورات "بويتيمبو إيديتوريال"، إلى إعادة طبع عدد من أعماله في فرنسا أخيراً، وصولاً إلى "حضوره" كشخصية محورية في مسرحية تُعرَض هذه الأيام في "مهرجان أفينيون" جنوب فرنسا، للكاتب السنغالي فيلوين سار والمخرج الرواندي دورسي روغامبا، بعنوان "الحرّيّة: سأعيش في حلمك حتى المساء الأخير".

علّمنا التاريخ أن الاشتغالات الكِتابية والفنية التي يدوم أثرها غالباً ما تجمع بين أكثر من ميزة، مثل الأصالة أو التأسيس لجديدٍ ما؛ الخصوبة التي تسمح بإعادة إنتاج هذه الاشتغالات؛ وقدرتها على مُقاومة الأثر الذي يفعله مرور الزمن، وذلك إمّا لأن الأسئلة التي تُحاول الإجابة عنها ما تزال راهنة، أو لكِتابتها وتوقُّفها عند ما سيأتي من بعدها.

تحمل أعمال فانون أغلب هذه الميزات، مع أن أسئلة الاستعمار التي حاولت الإجابة عنها قد ذابت مع انقضاء الزمن الاستعماري. لكنّ هذه الأسئلة انحلّت في زمن يليه، هو زمننا: ما يُسمى بما بعد الاستعمار؛ هذا الزمن الذي لم ينسَ قروناً من الهيمنة ومن استعباد بعض البشر بشراً آخرين مختلفين؛ أو هذا الزمن الذي ما يزال يعيش تبِعات تلك القرون ويحاول الخروج منها.

هل كانت تجربته ممكنة بلا مقاساةٍ شخصية وإصغاءٍ لمعذّبي الأرض؟

لكنّ راهنية المواضيع التي واجهها فانون ليست السبب الوحيد في كونه اليوم، إلى جانب إدوارد سعيد، مصدراً أساسياً في كثير من الأعمال التي تُحاول التنظير للعلاقات ما بعد الاستعمارية بين الشرق والغرب، أو بين الشمال والجنوب. ثمّة أيضاً غِنى تجربته التي انمزجت فيها المعاناة والمعاينة الشخصيّتين بالعلاج النفسي والتنظير الفكري. هل كان ممكناً تخيُّل كتابٍ مثل "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" (1952) ــ وهو الكتاب المؤسّس في مساره  ــ من دون مقاساةٍ شخصية، وإصغاءٍ لمُعَذّبي الأرض بغرض علاجهم، والتفكير بهاتين التجربتين بغرض استخلاص مقولات فكرية منهما؟

لم يكن فانون أوّل مَن كتب عن علاقة المستعمَر بالمسعتمِر والمهيمَن عليه بالمهيمِن. سبقه إلى ذلك كتّابٌ كبروه سنّاً أو جايلوه، ومنهم معلّمه إمّيه سيزير. لكنّه، بخلاف سيزير، سرعان ما غادر منصّة الأدب لمساءلة القضية نظرياً. مَن يعرف أعمال فانون المسرحية المبكّرة؟ لا أحد تقريباً خارجَ المتخصّصين في تجربته. أمّا مؤلّفاته النظرية، التي سعى فيها إلى تسمية تجارب حياتية ونفسية واجتماعية وسياسية بلغةٍ تحليلية، فهي معروفةٌ بما يكفي.

ربّما كانت الحاجة، في تاريخ الأفكار، وفي تلك الفترة تحديداً، تكمن هنا، في ضرورة نقل المقاساة المنثورة في ملايين التجارب الفردية إلى حقل المفاهيم، إلى كلمات قليلة تكتنف كلّ تلك العذابات وحالات الاستعباد والهيمنة وتقولها لِمَن لم يعرفوها... وحتى لِمَن عرفوها. كلماتٌ تقول الغضب مباشرةً، تُظهره واضحاً، ولا تلمّح له أو تغنّيه أو تسرده.

المساهمون