ذكرى ميلاد: سعيد تقي الدين.. فِكرٌ قِبلتُه حرّية فلسطين

ذكرى ميلاد: سعيد تقي الدين.. فِكرٌ قِبلتُه حرّية فلسطين

15 مايو 2022
سعيد تقي الدين في رسم لمصطفى فروخ
+ الخط -

"قبل أن أروي نفسي من لقاء أمّي، وأخشعَ على قبر أبي، أردتُ أن أعرفَ ما الذي نحنُ فاعلوه في الحرب في فلسطين". هذه هي الكلمات التي سطّرها الأديب اللبناني سعيد تقي الدين، عندما عاد من الفيليبين، وقد تزامن رجوعُه مع نكبة عام 1948. ومن المصادفات أنّ صاحب "أنا والتنين" وُلِد في بلدة بعقلين اللبنانية عام 1904، وبذات اليوم الذي ما زلنا نؤرّخ به للنّكبة، أي 15 أيّار/ مايو.

بهذا، نغتنم المُناسبتين، ذكرى 118 عاماً على ميلاده، ومرور 74 عاماً على النكبة، للحديث عن علاقته أديباً وسياسيّاً بفلسطين التي ظلّ مهموماً بها طيلة حياتِه. وهذا ما تجلّى بنظرته الفريدة عن العُروبة، منذ بدايات تأثّرِه بكتابات عبد الله النّجار (1896 - 1976) وعلي ناصر الدين (1888 - 1974)، وهما من الشخصيات المثقّفة التي شغلت مناصب في حكومة الأمير فيصل قبل سقوطها بيد الفرنسيين (1920)، وصولاً إلى انتمائه إلى "الحزب القومي السوري" مع احتفاظه وإصراره على تلك النظرة الرّحبة حول العروبة، إذ قلّما يتوفّر شرطٌ كهذا عند منتمي الأحزاب القومية المحلّوية، وليس انتهاءً بوفاتِه المفاجئة في كولومبيا عام 1960.

تزامنت النكبة مع رجوعه إلى لبنان فأعادت صياغة حياته

تدرّج تقي الدين عِلميّاً، بين مدارس بعقلين الأوّلية، فـ"الأنطونيّة" في بعبدا، ثمّ "الجامعة الأميركيّة" في بيروت، وشكّلت هذه الحدود الثلاثة تكوينَه حتّى تخرّجَ حقوقيّاً من الجامعة (1925). بيد أنّ حياةً معرفيةً موازِيةً ظلّ ينهلُ منها، ملؤها الانكباب على الأفكار السياسية والقضايا الكُبرى التي تتجاوز في ذاتها الأُطُر التعليمية المُباشرة للهيئات المذكورة. بمعنى آخر، لم تكُن روحُه ترتاح إلى ما يُملَى عليها فحسب، فتطلّعت إلى ما هو أوسع، ومن هنا يمكنُ تفسيرُ التحاقه أثناء دراسته الجامعية بـ"جمعيّة العروة الوُثقى". في حين يبقى أثرُه الأدبي الأبرز في تلك المرحلة مسرحيّة "لولا المحامي" (1923) التي يبدو أنّه كتبها متأثّراً بدراسته ومصطلحاتها، إضافة لرؤيته الخاصّة عن العالَم وما فيه من جَور وظلم.

بعد تخرّجه، تشكّلت مرحلة تالية في حياته إنّما خارج لبنان، وبالأخصّ في الفيليبين التي هاجر إليها عام 1925. وصحيح أنّه راح يشتغل بالتجارة، وانقطع نوعاً ما عن كتابة الأدب، إلّا أن هُناك من ينظر إلى نتاجاته في تلك المرحلة، بوصف صاحبها أديباً مهجريّاً، مثل ميخائيل نعيمة وجبران وآخرين، لكنّ تلكَ النظرة لا تُفتِّش في المكتوب حقاً، بقدر ما تقف على حدود الأمكنة التي لا تقول شيئاً في الحقيقة. فلو نظرنا في أدب تقي الدين، لا نعثر فيه - حتّى بعد عودتِه من مانيلا - على تلك الأصداء التي استخفّت "الأقلام المِهجَرية" حول لبنان المَثال، إنّما نجد أدباً يكوّنُه الواقع القاسي بمضمونه وشخصيّاته. 

أمّا من حيث الشكل فاعتمادُه الرشيق للقصّة القصيرة والمسرح كجنسَين كتابيين، أبعدَه عن نزعات الغنائية الرومانسية التي نُظِمت شعراً على أيدي الرعيل الأوّل من المِهجَريّين. وصحيحٌ أنّ في أعمالِه تأثيرات طفيفة للتيار المِهجري، إلّا أنّ الدور الأوجَه لأدب سعيد تقي الدين، يتأتّى من النظر إليه كتمهيد أوّلي لموجة الواقعية الجديدة التي ستنتعش بمنتصف القرن العشرين، وما حملَته من أفكار تنشدّ أكثر صوب التحرّر ببُعديه الاجتماعي والسياسي. سواء في أعماله القصصية: "الثلج الأسود" (1939) و"غابة الكافور" (1949)، أو المسرحية: "نخب العدو" (1937) و"حفنة ريح" (1948) العمل الهزلي الذي سخر فيه من النخبة البيروتيّة وطقوسها التافهة.

عودتُه إلى لبنان عام 1948، كانت عودةً إلى الاشتباك من جديد، فالأديب المُقلّ المنشغل بالتجارة، تفرّغَ أكثر وأصبح إنتاجُه أغزر، والسياسي الذي تقلّد مناصب دبلوماسية في مهجره، تخفّف منها إلى مواقع قريبة من الناس. ولمّا كان احتلال فلسطين هو الحدث المفصلي في تاريخ العرب الحديث خاصّة، والقضية الأولى عند المعنيين بتبنّي خطاب التحرر عامّة، وجدَ تقي الدين نفسه باحثاً عن وسيلة تقودُه للكفاح والتنظيم الحقيقي من أجل حريّة فلسطين. 

الواقع القاسي هو ما كوّن أدبَه لا صورة لبنان المثال

في كتابه "سيرة الأديب سعيد تقي الدين"، يعرضُ المؤرّخ سليمان تقي الدين الجهد والأرق اللذين تملّكا صاحب "غداً تقفلُ المدينة" من خلال ما كتبه بعد وصوله من مانيلا: "أنا عربي وفلسطين هي أبي وأمّي وأرضي وعرضي. فتّشتُ عن المُنظّمة التي تُسيّرنا، فلم أجِد، حينئذ دبّ بي من الرعب ما لم أعرفه". إنّها لحظةٌ فارقة، اتّحدَت فيها هموم شتّى الأدب والسياسة والمجتمع والناظم بين كلّ ما سبق ليس سوى معركة التحرير. قد يُحيلُ الكلام عن "المُنظّمة" إلى بُعدٍ عملي أو إجرائي مُتأثّرٍ بالتشكيلات العربية التي راحت الأحزاب والجماعات وكذلك الدول تُفكّر فيها، لمواجهة الغزو الصهيوني الاستيطاني، في تلك المرحلة.

لا بل يُمكنُ إرجاعُه أيضاً إلى انتهاجهِ سيرة علي ناصر الدين، إحدى الشخصيات التي ألهمتهُ قبل أن يُسافر، وتحدّثنا عنه في بدايات هذا المقال. فناصر الدين الذي كان على اشتباك دائم مع سلطات الانتداب الفرنسي، هو نفسه الذي حرّر صحيفة "الجمعية الإسلامية" في يافا وشارك في المؤتمرات الفلسطينية المناهضة للبريطانيين والحركة الصهيونية، وهو أيضاً مؤسّس "عُصبة العمل القومي" في بلدة قرنايل اللبنانية (1933)، التي يعدُّها المؤرّخون من اللبنات الأولى للأحزاب العربية القومية.

تلاقَت في شخص تقي الدين هذه الأفكار، ولم يكُن بمنأى عنها ولا يبدو أنّه انقطعَ عنها بمهجرهِ، أو لاذ بالحنين المهجري إلى صورة لبنان المثال. وإذا كانَ بحثُه عن "المنظّمة" عمليّاً، فها هي أفكار القوميين العرب تجدُ مُتّسعاُ نظرياً في إحدى مقالاته السياسيّة: "ما المذهب؟ أمِنَ الضروري أن يكون للرجل مذهب؟... لقد كنتُ حتّى السادسة عشرة من عمري أدينُ بقرويّتي الضّيقة، فأنا ابن الضيعة في لبنان. أؤمن بعائلتي بتفوّقها، بأحقادها، وصراعها مع جيراننا، عائليّة ارتدتِ الطائفية وامتشقت سيفاً، فأنا درزيّ والدروز أشجع أهل الأرض وأنبلهم... وراحتِ الحياةُ تُفكّكُ عُقداً في النفس وتصوغُ سواها... واستفقتُ... فكنتُ أصيحُ بالنّاس كاذبٌ من يقول لك إنّه اعتنق مذهباً لسبب واحد من الأسباب، وكاذبٌ أنا إذا قلتُ إنّ مذهبي يمثّل مئة بالمئة كلّ ما أصبو إليه".

آمن بلبنان العربي فلم تكن قوميّته مجرّد تحزّب ضيّق

أمّا انتسابُه بعد ذلك إلى "الحزب القومي السوري" عام 1951، فلم يكُن قطعاً مع رؤيتِه عن العروبة، بل نوعاً من التلاقي معها، وهذا ما لم يستوعبْه مَن قرّروا تأميمَه لجهة حزبية، وتكريسه شخصيّةً ذات بُعدٍ واحد، وهذا ما لم يتحقّق بالطبع. فالأديب الذي انفلتَ من التصنيفات المدرسية والمثالية، لم يبخل على نفسه سياسياً بأن يتحرّك في فضاء التقاطعات الكبرى وهو الذي كتبَ ذات مرّة "أنا لبناني، إذاً أنا عربي، إذاً من النكبة عليّ أن تكون هذه القطعة من الدنيا (سوريا الكبرى) غير وحدة سياسيّة لا تتجزّأ". 

العقد الأخير من حياة تقي الدين كان الأكثر زخماً على الصعيدين الأدبي والسياسي معاً، فالرجل الذي كتب "أقدام عارية" و"المنبوذ" (1953) و"تبلّغوا وبلّغوا" (1955)، و"غبار البحيرة" (1956)، والذي أسّس جمعيّة "كلّ مواطن خفير" لمكافحة التجسّس الصهيوني، لم ينقطع إنتاجُه حتّى بعد سفره إلى كولومبيا التي توفّي فيها عام 1960. ليبقى اللافت في مسيرته أنّ آثارَه الأدبية عُرفَت وأخذت مداها الحقيقي بعد وفاته، وقد اكتُشفَت آخر مسوّداته في فترة قريبة من يومنا هذا. 

المساهمون