"دوبامين": صناعةُ عقلٍ على مقاس الشاشات

"دوبامين": صناعةُ عقلٍ على مقاس الشاشات

24 يونيو 2023
يزداد وقت استخدام الهاتف بشكل مطرد مع ازدياد "الإعجابات" والمحفزات التي نحصل عليها (Getty)
+ الخط -

في كتابه "أين أنت؟ أنطولوجيا الهاتف المحمول" (2005)، وصفَ الفيلسوف الإيطالي ماوريتسيو فيرّاريس الهواتفَ الخلويّة بأنها المهندسة المُعاصرة للواقع الاجتماعي، باعتبارها آلة تكنولوجية لديها مقدرةٌ على تحديد سلوكنا وتصرّفاتنا وخياراتنا بشكلٍ لم تستطع تحديده ــ بهذا القدر من التأثير وهذا التكرار اليومي ــ أيّة آلة سابقة.

وعلى سبيل المقارنة مع الهاتف التقليدي، يقول فيرّاريس إن الهاتف الثابت كان وسيلة تواصُل بلا ذاكرة، أشبه بميكروفون ضخم تنتهي مهمّته وذاكرته مع انتهاء كلّ مكالمة، في حين أنّ الهاتف المحمول يجمع ويوفّر في ذاكرته وعلى شاشته العديد من الأبعاد الأساسية لدى الإنسان: التواصل، والكتابة، والكلام، والصور، والذكريات، والرغبات، وغير ذلك ممّا تتدخّل به هذه الآلة الصغيرة.

"دوبامين: كيف تنصب التطبيقات فِخاخاً لعقولنا" (53 دقيقة، 2023) عنوان فيلم وثائقي لـ ليو فافييه، تبثّه هذه الأيام قناة "آرتيه" الثقافية الفرنسية الألمانية، وفيه وقوفٌ على "الجيل الجديد" ممّا سبق لـ فيرّاريس أن عالجه قبل نحو عقدين في كتابه، أي على جيل الهواتف التي تُعرَف بـ"الذكية"، وعلى تأثيرها الكبير في حياتنا اليومية وإعادة صياغتها لها، من خلال تطبيقاتها، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

تستند وسائل التواصل الكُبرى إلى مبدأ سلوكي يُسَمّى نظام المكافأة

وكما هو واضحٌ في عنوان فيلمه، فقد اختار المُخرج الفرنسيّ مقاربةَ الموضوع من باب علمَي النفس والأعصاب، عبر الدوبامين، هذا الناقل العصبيّ المهمّ في حياتنا اليومية، والمرتبط بشكل أساسيّ بما يسمّيه العلماء "نظام المكافأة"، وهو نظامٌ مسؤول أو مؤثّر في كثير من السلوكيات، مثل التعوّد، والإدمان، والأفعال القهريّة. هكذا يُفتَتح الفيلم على مَشاهد لا يجهلها أيّ منّا في عالمنا اليوم: أشخاصٌ يتوتّرون في غياب هواتفهم الذكية وعندما يتذكّرون أنهم نسوها، أو عندما يكتشفون أن بطّارياتها على وشك الانتهاء؛ أشخاصٌ يبحثون عنها مطوّلاً تحت الأرائك، أو يكبّسون عليها بينما هم يركضون أو يخلدون إلى النوم أو حتى في الحمّام.

صحيحٌ أن عمْر الهاتف الذكي لم يتجاوز بعدُ العقدين، إلّا أنه، في هذه الفترة القصيرة، استطاع التحوّل إلى عنصر أساسيّ في يومياتنا، وذلك لاستغلال المسؤولين على التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعية الكُبرى ــ "تيك توك"، "واتساب"، "لينكد إن"، "فيسبوك"، "إنستغرام".. إلخ ــ لنظام المكافأة هذا. نظامٌ يمكن وصفه ــ كما يشرح العلماء والباحثون الذين يقابلهم المُخرج ــ بأنه عملية عصبية بيولوجية مسؤولة عن تحفيز الإنسان على أداء بعض الأفعال من خلال تزويده بلذّة وسعادة يعيشهما عند أدائه لهذه الأفعال. على أنّ المشتغلين في عالم التقنيات حوّلوا هذه العملية البيولوجية الطبيعية، المرتبطة عادةً بالمأكل والمشرب وغيرها من حاجات الإنسان اليومية، إلى وسيلة لـ"التقاط" انتباه المستخدمين عبر "تحفيزهم" من خلال أدواتٍ مثل "الإعجاب" على وسائل التواصل، وأعداد المشاهدات. 

وتُجمع الدراسات التي يعرض لها الفيلم على أنّ النشاط على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها يزداد طرداً مع تزايد عدد الإعجابات (أو القلوب، أو غيرها من أدوات "التحفيز") التي يحصل عليها الفرد من قِبَل متابعيه، أو مع تزايد عدد الإشعارات التي يحصل عليها، وتزايد ظهور محتويات متعلّقة بالمواضيع التي يهتمّ بها (وهو ما توفّره التطبيقات عبر استنادها إلى الخوارزميات). أمرٌ يقود إلى أن متوسّط استخدام الهاتف الذكي تجاوز في بعض البلدان، مثل البرازيل، خمس ساعات يومياً، أي تقريباً ثلث الوقت الذي يقضيه الإنسان مستيقظاً بشكل يومي. ويتأتّى هذا الإدمان من أنّ نظام التحفيز هذا يتحوّل سريعاً إلى عادة حتى في ظلّ غياب مكافآت ملموسة، وهو ما يفسّر أنّ كثيراً من الناس يفتحون هواتفهم من دون أسباب مقنعة لذلك، ويتصفّحون تطبيقاتٍ سينسون المحتويات التي رأوها فيها بعد دقائق، لعدم اهتمامهم أساساً بها. هكذا يكون التعوّد على الشاشات قد تحوّل إلى سلوكٍ مستقلّ وقائم بذاته.

سلوكٌ يخصّص المخرج الجزء الأخير من شريطه لاقتراح حلول له، من خلال مقابلات مع عدد من المعالجين النفسيين الذين يدعون، مثلاً، إلى ترك الهاتف في غرفة أو مكان آخر عند القيام ببعض الأمور، مثل العمل أو الدراسة، مشياً على مقولة "بعيد عن العين، بعيد عن القلب". ومن النصائح غير الشائعة في هذا السياق تلك التي يقترحها عالم النفس الألماني، كريستيان مونتاغ، الذي يدعو إلى حذف الألوان من الهاتف وجعله فقط بالأسود والأبيض، وهو ما يُفقِد وسائل التواصل الاجتماعية جزءاً كبيراً من جاذبيتها. كما يذكّر مونتاغ بضرورة الذهاب أبعد من الحلول الفردية، نحو خطوات جماعية وقرارات سياسية، مثل فرض قوانين على الشركات الكُبرى تحدّ من سلطتها ومن قدرتها على إضاعة وقت الناس، أو تفرض عليها تحديد أنواع المحتويات التي تقدّمها.

 

المساهمون